تُعتبر أميركا من أكثر البلدان حرّيةً في التعبير، ما يُعزى إلى قوّة النظام الأميركي، الذي لا تُضيره الآراء المعارضة ولا الانتقادات، غالباً لا يحاول قمعها، إلّا عندما تُشكّل قوّة معطّلة ضاغطة، تُهدّد قراراته الاستراتيجية، كما في حرب فيتنام، فقد كان صراعُه مع الروس أيضاً، أو الآن في العدوان الإسرائيلي على غزّة، باعتباره الضامن لوجود هذا الكيان، بعد التوافق مع أوروبا على حلّ المسألة اليهودية على حساب الفلسطينيين.
هذا التوافق لم يتغيّر، لكنّه اليوم تصدّع، لعدم استحالة كبح وحشية الردّ الإسرائيلي على عملية “طوفان الأقصى”، أو منع قادة “إسرائيل” من استثمارها بإخلاء غزّة من سكّانها. لم يحاول الغرب التهديد بالتخلّي عن “إسرائيل”، وإنّما التأكيد مراراً على الوقوف بجانبها، ولم يفعلوا طوال حرب ستدخل شهرها الثامن أكثر من الإنكار المفضوح لتجاوزات صُنّفت على أنها إبادة، تُنقل بالصوت والصورة.
فإذا كانت أميركا تصون الحرّيات، وكذلك بريطانيا، لا تُخفي حرّية التعبير صلابتها، لهذا لم تقلّ حركة الشارع البريطاني عن حركة الجامعات الأميركية، عكس بلدان أوروبا الأُخرى التي تتوخّى عدم تعرُّض جامعاتها للسياسات الإسرائيلية، فسارعت إلى الدفاع عنها، وبلغ الحرص حدود وقايتها من الانتقادات بإجراءات مسبقة تصادر حرية الرأي، على رأسها ألمانيا وفرنسا بلاد تقاليد الحرّيات والفكر والأدب والفنّ. لم تكن أمينة لتاريخها، وأثبتت أنّها لا تعدو أكثر من أزياء ليس لها تأثير إلّا في توخّي الصمت المطبق، أو القمع الشامل.
لطالما كانت للجامعات إسهاماتها في المنعطفات التاريخية
خلال الحرب الباردة، استطاع الغرب الردّ على ما واجهه من انتقادات من أحزاب اليسار في بلدانه، والاستفادة منها، واحتواءها، وإذا كان لا بدّ من التأثّر بها، فبشكل إيجابي، ما منحه المناعة، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفييتي والخلاص من “البُعبُع” الشيوعي، جرى الاعتقاد بنهاية الصراعات الكبرى، فأُعلن عن نهاية التاريخ. غير أنّ التاريخ استمرّ في التقدّم كما كان في السابق، وإن ليس باستقامة، كان يعرج كما اعتاد، ما دام الغرب لم يُعِد النظر في الكثير من القضايا المعلّقة، فعادت إلى الظهور، بعدما جرى التعتيم عليها ردحاً من الزمن، لكن تركّز السعي على طمسها أو إخفائها.
كانت من جملة هذه القضايا محاولاتُ تغييب القضية الفلسطينية وراء مؤتمرات ومفاوضات ومساومات واتفاقيات لا تُجدي، جلُّ ما كانت تُسهم فيه المساعدة على تأجيلها، ما يسمح لـ”إسرائيل” بقضم الأراضي الفلسطينية. عموماً، تَشارك الجميع بالتكتّم عليها، وكانت مصادرتها باحتكارها داخل سياسات تجاهلتها، إلى أن اعتُبرت قضية منتهية تخصّ الراعي الأميركي.
كان تحرُّك الجامعات في أميركا وامتداده إلى جامعات العالم، على الرغم من محاولات تقييده، أشبه بجائحة، وإذا كانوا قد حاولوا لجمه، حسب ترويج اعتقادٍ بأنّ الجامعات أفرطت في حرية الرأي ما أدّى إلى الفوضى، لمجرّد أنّ الطلّاب طالبوا بمنع تزويد “إسرائيل” بالسلاح والذخائر، ووقف إطلاق النار في غزّة، وسحب استثمارات الجامعات من شركات متورّطة في الحرب. فارتفعت أصوات تدعو إلى التدخّل وإقحام الجيش في الجامعات لشلّ نشاطات الطلبة، ولو باعتقالهم ومحاكمتهم، محذّرين من أنّ الشرارات المندلعة منها ستُصبح حريقاً يصعب إطفاؤه، أو ضبطه والسيطرة عليه.
ما يغيب أحياناً عن الحكومات أنّ حرّية الرأي والتعبير ليست طارئة، وما احتجاجات اليوم إلّا استمرار لتقاليد الاحتجاج الراسخة في الأنظمة الديمقراطية، تتجدّد كلّ فترة على إيقاع سياسات متغيّرة، أنانية كانت أو غير إنسانية. فالجامعات معقل العقل، كان لها إسهام في منعطفات تاريخية سواء في العام 1968 عندما أفرزت الثورة الطلّابية في فرنسا، أو في حرب فيتنام، ونضال السود في جنوب أفريقيا ضدّ نظام الفصل العنصري وغيرها، كما كان لها الدور الأهمّ والأكبر في إعادة قيم إنسانية كادت أن تُهدر، وتغيير مفاهيم عنصرية قبل أن تستقر.
تجد حكومات الغرب اليوم صعوبة في المساس بالكيان الإسرائيلي الذي شاركت في صناعته، أو حتى انتقاده، بعدما فلت من حساباتها، حتى أنّها لا تستطيع الدفاع عنه إلّا بإقناع شعوبها بأنّه ضحية. لذلك لم تنطق بالحقيقة إلّا الأصوات المتحرّرة من العبء الإسرائيلي، كصوت الكاتبة اليهودية نعومي كلاين التي اعتبرت أنّ “إسرائيل” ليست إلّا قوّة احتلال، وفكرة مدنّسة في حدّ ذاتها، طالما أن تحقيقها منذ البداية اقتضى تهجيراً جماعياً للفلسطينيّين من بيوتهم وأراضي أجدادهم. واعتبرت الصهيونيةَ صنماً زائفاً يعبده الإسرائيليون يقودهم إلى طريق غير أخلاقي، وأدّت عبادته إلى تدمير كلّ جامعة في غزة، وهدم أعداد لا تُحصى من المدارس، وقصف المستشفيات، وقتل مئات الأكاديميّين والصحافيين والشعراء.
أيها الطلّاب… حطّموا هذا الصنم الزائف.
-
المصدر :
- العربي الجديد