زمن الهولوكوست لم ينته، فهو حاضر، ما زال سارياً ويتجدّد، لكن على نحو مُغاير، ليس كما أُريد له أن يكون مانعاً لها. بل سامحاً بها، إلى حدٍّ أصبح في كلِّ مذبحة ترتكبها “إسرائيل” مُسوِّغاً لتبرئتها، ومباركة العالَم لها بضمير مُرتاح. ما منح “إسرائيل” امتيازاً لا نظير له، عدم المسؤولية عن عشرات المجازر، ولا الانصياع لقرارات “الأُمم المتّحدة”، ما جعلها فوق القانون الدُّولي.

أمّا الذي أعطاها هذا الحقّ، فهؤلاء الذين شاركوا في ارتكاب الهولوكوست النّازي من الدّول التي امتنعت عن استقبال اللّاجئين اليهود الفارّين من ألمانيا، الهاربين من الموت. لم تكن أبواب الدول الأوروبية وأميركا مفتوحة لهم، كانت تتعامل معهم بانتقائية، وترفض السفارات إعطاءهم التأشيرة، وتُرِك الملايين للمحرقة. اليوم بانحيازهم إلى “إسرائيل” والصمت على محرقة غزّة، يعتقدون أنهم ينفون المسؤولية عن حكوماتهم، بعدم توجيه الأنظار عمّا شاركوا بصناعته، لكن التاريخ لا ينسى، ما يحاولون إخفاءه، والتستُّر عليه. ما أعطى الحرّية المُطلقة لـ”إسرائيل” في استثماره بمضاعفة الإبادة عدّة مرّات وبشتّى الأسلحة، هذه الدول لا تؤيّدها فقط، بل وتساعدها على تنفيذ جرائمها.

العالَم لم ينس الهولوكوست، أصبح من عتاد السينما طوال ما يزيد عن ثلاثة أرباع القرن، أخذته “هوليوود” على عاتقها، لا تكفّ عن تذكيرنا به من خلال أعداد هائلة من المآسي الفردية، والتحذير من ارتكاب ما يُعيدها إلى الذاكرة، أو تكرار ما هو شبيهٌ بها، فالإبادة ليست حكراً على الهولوكوست اليهودي، بل تهدّد سكّان المعمورة قاطبة، إنها محنة البشر جميعاً، ولا تفريق أو تمييز بينهم.

اختطفت “إسرائيل” الهولوكوست واعتبرته يخصّها وحدها

شهد العالَم أكثر من إبادة في أفريقيا وآسيا، لم تأخذ نصيبها من التعريف بها، بعدما اختطفت “إسرائيل” الهولوكوست واعتبرته يخصّها وحدها، ولا إبادة تُقارن به، وجهدت في منع الاعتراف بغيره، لئلّا تغيب الأنظار عن الهولوكوست اليهودي، حتى باتت الإبادة بالنسبة لها مجالاً للتنافس، ومجالاً مفتوحاً للمتاجرة، استُخدم لابتزاز دول العالم.

استثمرت الصهيونية بالمحرقة النازية، وجعلت دول أوروبا تعيش تحت وطأتها، ما يضطرّها للوقوف إلى جانبها، وإلّا وجّهت أصابع الاتّهام إليها، ألمانيا بالتحديد تعيش على الدوام أسيرةَ عُقدة ذنب تاريخية. ولم تعفُ “إسرائيل” عن توريط الضمير العالمي والإيقاع به، بزعم أنّ الظُّلم الذي حاقَ بالأجداد، يجعلُ لها الحقّ بإيقاع الظلم بالشعب الفلسطينيّ.

لم يفهم العالَم بعدُ أن قصة الهولوكوست المعروفة انتهت بموجب ألّا تتكرّر، لكنّها منذ ذلك الوقت لم تتوقّف فصولها على أرض فلسطين، ما أشاح البصر أيضاً عن أكثر من هولوكوست دارت وقائعه في أفريقيا وآسيا، وإدراك أن “إسرائيل” أكثر دولة في العالَم ارتكبت أخطر المجازر في فترة قياسية وبشكل دوري، كان ذريعة مستمرّة لتهجير الفلسطينيّين ونهب أراضيهم.

استُخدم الهولوكوست على غير ما كان الاعتقاد عنه، أن يشكّل حافزاً إنسانيّاً على إنهاء القتل لدواعٍ عُنصرية مهما جرى التستّر عليها، بعدما أصبحت الإبادة السافرة الجزء الأكثر انحطاطاً من تاريخ العالَم، وتعبيراً عن الجنون البشري، بلغ فيه شطط القوّة ما تجاوز حدود الرُّعب المُطلق، أطلق الشرّ بأقسى صُوره، في أفظع مثال على تهديد الوجود الإنساني، ودعا إلى العمل على كفّ جماح أيّة ذريعة تنحو لإلغاء شعب أو عِرق أو بشر.

في العُدوان الجاري حاليّاً، تدور التساؤلات عمّا يجري في غزّة، ما يحدث فيها هولوكوست أُضيف إليه التجويع حتى الموت، اللّافت أنّ الفاعلين هُم أحفاد ضحايا الهولوكوست، يكرّرون جرائم النازيّة، ويتماهون معها باستعمال الوسائل ذاتها، وكأن لهم الحقّ في القتل. على الرغم من الحُكم الذي أصدرته “محكمة العدل الدولية” بأنّ “سلوكيات ‘إسرائيل’ تمثّل شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية”، ما زالت المجازر يوميّة بمشاركة أميركا التي تمدّ “إسرائيل” بالذخائر الفتّاكة وتعرقل الجهود الدولية الرّامية لوقف إطلاق النار، مع ضلوع أوروبا بمساندة القرار الأميركي بحجب الأموال عن “الأونروا”، ما يشكّل تنكُّراً للالتزام بتقديم المساعدة الإنسانية… ولا أمل إلّا في تطويل أمد معاقبة غزّة على مقاومة الاحتلال.

الذي لم يُعمل له حساب أنّ العالَم استيقظ، بات يعرف أنه لا يجوز التذرُّع بالهولوكوست لارتكاب هولوكوست آخَر، ولو كان في عودة النازية إلى الحياة في “إسرائيل” وأميركا وأوروبا، لكن في هذه البلدان نفسها استيقظ الضمير أيضاً… إن العالم يتغير.