نفتقد صورة الحضارة الغربية التي عرفناها، وطالما أُعجبنا بها، ليس لأنّ المفكّرين الكبار رحلوا، ما زال لدى الغرب الكثير من المفكّرين ومنهم فلاسفة وأدباء، وإنّما لأن أحوال الديمقراطية مقبلة على التدهور، أو أنها تعيش حالة ارتداد، فالضمير مُصاب بالبكم، ما يهدّد حضارة كانت الديمقراطية من أهمّ إنجازاتها. في حين تبدو الشعبوية إنجازها القادم، فالغرب يلهث وراء الصراعات، ولو كان في ابتكار زعماء يحضُّون على الكراهية، حتى إنّ الفجاجة العنصرية منتشرة بكامل عنجهيتها مستمدّة من عصر الاتجار بالرقيق تلك النزعة التي تُعاود الغرب بين فترة وأخرى، أشبه بنوبات مرضية، تنصبّ بحسب الظروف، تارة على اليهود والسود، وأُخرى على الآسيويين والعرب. اليوم تخصّصت بالشعب الفلسطيني، سلسلة ليست إلى انتهاء، بقدر ما هي إلى تجدّد.

يستدعي حضور العنصرية، التفكير في ما بعدها، أي إلى أين ستذهب، وإلى ماذا ستتحوّل، إن لم يكُن إلى استعمار جديد، فاستبداد مُبطّن. تحتاج العنصرية إلى “زعماء” تاريخيّين، أمثال هتلر وموسوليني، ليصنعوا كوارث العالَم، وهناك الآن قادة لا يقلّون عنهم، لا تنقصهم الجرائم، وإنما الكاريزما.

تنشأ العنصرية بالتدليس؛ “نحن المختارون”، وتستمرّ بالقوّة. ليست لدى أوروبا ولا أميركا المناعة الكافية من إدراج الطغيان في برامجها، فحصانتُها إلى اضمحلال، ما دامت تسعد بتسليم أمورها إلى حفنة من السياسيّين، يعضدهم أثرياء كبار من أصحاب الثروات الخرافية، لا يخفون مشاريع تسعى إلى التحكّم في البشر، وقد تؤدّي إلى إفنائهم.

هل ما زال الغرب يعتقد بالأفكار الكبرى التي يُنادي بها؟

احتمى الغرب بالأفكار الكبيرة؛ الإنسانية والحرّية والعدالة، هل ما زال يعتقد بها؟ يوماً بعد يوم، تراود البشر الشكوك، حوله وحولها. عندما تتعرّض هذه الأفكار للامتحان تتساقط وكأنها لم تكن شيئاً، لكن يجري التذرّع والتلويح بها، مثلما يجري التلاعُب بها والتنصّل منها في كواليس الحكومات والسياسات والسياسيِّين، بالانحياز إلى مصالح ضيّقة تتعارض مع القيم التي نشأت على أساسها حقوق الإنسان التي تُعَدّ الدساتير الغربية ضامنة لها، وكانت حريصة على الدفاع عنها.

رفع الغرب بعد حربين عالميّتين، وخلال الحرب الباردة شعاراتٍ، كانت عن حرّية الرأي والتعبير، واحترام الرأي المُخالف، والصحافة سلطة رابعة، وتطبيق القانون بعدالة، والجميع سواسية، وحق تقرير المصير، ونصرة الشعوب المظلومة… جميعها آخذة بالتحطُّم، بالتخلّي عنها، حتى لو ناقضت القيم التي بُنيت عليها الدولة في الغرب، ليس سرّاً، بل علناً، الأمر الذي لا يُمكن فهمه أن المؤسسات التي ترعى الشفافية، وترعى التعتيم، لم يُصبْها العمى، بل تُشارك فيه. ولا تقصر في إخماد أصوات الاحتجاج بشتّى الوسائل وكل الضغوط، بطرد أصحابها أو اعتقالهم. باتت الحرّيات الأكاديمية مُهدّدة بالفعل، ليس من خلال مجموعة من الإجراءات غير القانونية فقط، ولكن من خلال إجراءات تمنع أصحابها من الدّفاع عن أنفسهم أيضاً.

لم ينكشف الغرب مؤخّراً، بل تابع سلسلة مواقفه المؤيّدة لـ”إسرائيل”، كما يحدث في غزّة منذ أشهر. يبلغ حجم التأييد الانبطاح الكامل، والتسليم للإبادة، وترويج الرواية الإسرائيلية سرديةً مُعتمدة، ما برّر التنكيل بكلّ من تجرّأ على المخالفة. لم تعُد الهيستريا الغربية سوى حالة طبيعية، تداعت عن حالة مستقرّة تحت السطح، بدلاً من أن يصلح الغرب ما اقترفه، يبالغ في دعم “إسرائيل” ليبعد الشبهات عنه.

إذا أردنا النظر إلى صورة الغرب، فسنرى صورة يتقاسمها مشهدان، الأول تظاهرات هائلة تطوف شوارع العالَم، يقودها جيل من الشباب، لا تأثير عليهم من الدعايات والغيبيات الصهيونية، يندّد بالجرائم الإسرائيلية ويطالب بوقف فوري لإطلاق النار، إضافة إلى الاعتصامات والندوات الجامعية والمؤتمرات والمقابلات التلفزيونية ومقالات صحافية، وكتابات على صفحات التواصل الاجتماعي.

أما المشهد الثاني، فيفضح قيام حكومات الغرب خلال العقود القليلة المنصرمة في تدمير العراق بأدلّة زائفة، وتخريب سورية طوال ثلاثة عشر عاماً، بتسليم أقدارها للرُّوس والإيرانيّين، وفي فلسطين بدعم “إسرائيل” بالسلاح والتواطُؤ بالدّفاع عمّا ارتكبته من مجازر وتشريد ونهب بلد، وفي “مجلس الأمن” بشراكته مع الرُّوس في استخدام “الفيتو” بالتناوب، لم تفلت قارّة من جرائمهم… هذه صورة الغرب. وهو ما يُعيدنا إلى الديمقراطية، نعم هناك شرخ، ليس فيها، وإنما فيمن يمثّلونها، شرخٌ يُحيلها إلى الخيانة، والتبشير بالاستبداد.