فواز حداد أيقونة الرواية السورية، روائي سوريا وشعبها ومجتمعها وثورتها. الروائي الذي وضع لنفسه هدفا واستمر يعمل عليه بكل دأب ومواظبة ومصداقية وهو : توثيق ما عاشته سوريا منذ أيام المستعمر الفرنسي حتى الان، يعني مغطيا قرن من الزمان، وعبر ما يزيد عن ثلاثة عقود من الكتابة…
مرسال الغرام هي الرواية التي تركت أثرا في نفسي في قراءتها الأولى بعد صدورها عام ٢٠٠٤م. لذلك كانت الأخيرة التي أعيد قراءتها بعدما قرأت كل روايات فواز حداد وكتبت عنهم، رواياته التي وصلت إلى سبعة عشر عمل مع الكتاب الذي تحدث به عن تجربته الروائية بعنوان: لقد مررت في هذا العصر.
بالطبع لم اذكر مجموعته القصصية الوحيدة : الرسالة الاخيرة التي لم أقرأها بعد…
مرسال الغرام هي الرواية الأولى التي كتبها فواز حداد وكانت بهذا الكبر والتوسع ٥٢٨ ص من القطع الكبير. كذلك رواية السوريون الأعداء وجمهورية الظلام بفارق زمني، ويكونون بهذا الحجم الكبير. وكأن هذه الروايات تغطي مرحلة زمنية مصيرية في التاريخ السوري أو العربي…
حيث تغطي رواية مرسال الغرام مرحلة عبد الناصر وما صاحبها سياسيا وفنيا ومجتمعيا، وبالطبع تتحدث عن تجذر النظام السوري في المجتمع السوري من خلال الأجهزة الامنية والسلطوية وعبر الانتقال من الاسد الاب الى الابن في سوريا في عام ٢٠٠٠م. حيث تاريخ الحدث الروائي المباشر هو سنوات الألفية الجديدة . أما السوريون الأعداء فهي تتحدث عن أحداث حماة في ثمانينات القرن الماضي ضمن سياق زمني حتى الثورة السورية. اما جمهورية الظلام، فهي اضاءة على النظام السوري وفق واقع الثورة السورية المعاشة حتى الآن… وكلها أحداث مفصلية في تاريخ سوريا والعرب…
مرسال الغرام رواية مكتوبة بلغة المتكلم على لسان شخصياتها المحورية الراوي الغير محدد الاسم الذي سندعوه صاحبنا و رشوم صديقه الكاتب الصحفي، مع كثير من الشخصيات التي تمثل محاور مسار العمل الروائي المتشعب والثري الذي نقرأه…
مرسال الغرام مكتوبة بتدفق وعمق وحميمية وشفافية تجعل الشخصيات تعيش حياتها ظاهرا وباطنا أمام القارئ الذي ستكشف أمامه أحداث متنوعة تطال قرن من الزمان لموضوعات متنوعة ومختلفة تترابط عبر شخصيات الرواية ومتابعتها لحياتها وما تسعى لتحقيقه على مستوياتها الحياتية كاملة…
نبدأ من الشخصية المحورية رشوم والراوي صاحبنا، اللذين يمثلان العمود الفقري للعمل الروائي وادوات الحدث الروائي كاملا. رشوم توظف في التلفزيون مراقبا للصوت ومن ثم تدرج ليكون قريبا من صناعة المسلسلات التلفزيونية وليكون قريبا من الممثلة المشهورة ناريمان ويحاول التقرب منها وتصده فينتقل إلى العمل للإساءة لها وتدميرها. حب وكره في بنية نفسية واحدة. طالت رشوم وناريمان نفسها.
من خلال أجواء التمثيل والتلفزيون وشبكة العلاقات سنكتشف بنية النظام الحاكم في سوريا. فكل ما يحصل في التلفزيون او المسلسلات المنفذة فيه بطولة وغير ذلك كلها محكومة بارادة الطبقة السلطوية المهيمنة على كل مسارات الحياة في سورية ومنها التلفزيون وما ينتجه…
سنتعرف على النظام السوري عبر شخصيات ذكرت بأحرف للتأكيد على الخوف الأمني من معرفة هؤلاء المسؤولين وبالتالي التحدث عنهم او التقرب منهم. انهم الخطر والسلطة والجبروت والفساد والهيمنة. بالطبع نعرف ان المسؤول الاول واحد من اعمدة النظام منذ عقود وله حضوره ومصالحه الكثيرة وهيمنته مع شبكة السلطة على المجتمع السوري بكل فعالياته وتحركات البشر به. له ابن اخ هو الشخصية التي سيعطى قوة السلطة ليصنع شبكة فساد تعمل في كل شيء وتستخدم السلطة والواسطة ليحصل على المنافع المحصلة من أصحاب المصالح التي يمررها لهم، ويثري ويصبح واحدا من أعمدة الثراء في البلد.
في التلفزيون تتواجد الممثلة الأولى ناريمان التي تقع تحت رعاية المسؤول إياه والتي تحصل على أعمالها الفنية وتبقى بالواجهة دوما. هي ممثلة وبنفس الوقت هي صاحبته الشخصية، التي يعيش معها علاقة منفتحة على كل المحرمات. حصل ذلك حتى استهلكها وقرر استبدالها بممثلة جديدة صاعدة، ستكون صاحبته. وتسحب كل المكتسبات من ناريمان وتصبح ممثلة سابقة مهملة ومنسية. هي ذاتها ناريمان التي كان رشوم قد احبها و كرهها وعاش معها صراعا. كاد يودي به الى السجن لولا هروبه ايام عزها بعلاقتها مع ذلك المسؤول.
هرب خارج البلد لفترة وعاد ليجد ان مجد ناريمان قد افل وانه يحبها ويود أن يعيدها الى مجدها مجددا. سيكون صاحبنا الراوي مرساله إليها. وسيعمل ليقنعها ويتواصل مع الأعمى ليكتب له سيناريو مسلسل ليعطيه لناريمان وليجد مخرجا تلفزيونيا تخرّج حديثا من الاتحاد السوفييتي ليخرج لها المسلسل، وتبدأ معركة بين المسؤول و رشوم وصاحبنا الراوي حول المسلسل حيث أراد المسؤول الاستحواذ عليه لتمثله الممثلة الصاعدة حبيبته. بالطبع حصل ذلك بالعنف والقوة وتحت التهديد…
سنتابع مشكلة السيناريو الذي كتبه الاعمى “اعمى يقود مفتحين” وبعد ذلك سيناريو آخر يكتبه رشوم. ثم قرار المسؤول أن يعطي السيناريو لناريمان لتمثله في خاتمة الصراع لأنه مل ممثلته الصاعدة وقرر العودة لناريمان. انها لعبة مشاعر غير محددة وغير منضبطة رجراجة متغيرة وغير سوية أغلب الأحيان. رشوم سعيد بعودة ناريمان للعمل لكن مفجوع لكونها وهبت جسدها لصديقه صاحبنا الراوي. ولكون المسؤول هو من سيجني ثمار ناريمان ومسلسلها بصفته غنيمته الجديدة…
في سياق ذلك سنتعرف على طبقات الفساد المتراكمة في السلطة. المطلعة على كل شيء والمستفيدة من كل متغير يحصل في البلد بصفتها سلطة والصفات الشخصية لكل العاملين بهذه الأجهزة، نموذج ذلك جهاز التفتيش العام الذي كتب رشوم لهم شكوى على المسؤول ليكتشف أنهم ينتمون كلهم لذات قطيع الذئاب الذي ينهش في جسد المجتمع وهنا في عمل رشوم وصاحبنا والمخرج والممثلة ناريمان ايضا… كلهم ضحايا السلطة التي تستثمر الجميع…
مرسال الغرام كرواية مجبولة حكايتها التي ذكرتها بتركيز مع حكاية اخرى تكاد تكون هي الرواية الحقيقية وما قصة رشوم وصاحبنا الراوي والمسؤول والممثلة والأعمى… إلا مجرد احصنة تركبها الرواية لترحل إلى موضوعها الأصلي الأساسي : انه ام كلثوم وعصرها…
بدأ البحث حول أم كلثوم من سؤال ناريمان لرشوم حول حقيقة وجود حب بين أم كلثوم وكاتب اغلب أغنياتها أحمد رامي …
تتوغل الرواية في حياة أم كلثوم وعصرها منذ طفولتها في عشرينات القرن الماضي. حيث كانت تقرأ القرآن وتشارك في الموالد النبوية وبعض الافراح مع والدها وهي طفلة صغيرة، تلبس ملابس الذكور وتتجول مع والدها في أرياف مصر. حتى جاء من اكتشف موهبتها فاقترح على والدها أن يذهب بها الى القاهرة لتأخذ حقها من الاهتمام فهناك الملحنين وكاتبي الكلمات و العازفين المهرة وهناك ايضا أساطين الغناء من النساء والرجال. ذهبت أول مرة تعاملوا معها باستهتار، وسرعان ما تركت القاهرة لتعود ثانية. وتتألق أول بأول لتكون الست ثومة و لتصبح واحدة من اهم الاصوات المصرية وليكون في صحبتها أهم العازفين و أهم الملحنين. وأهم كتابي الأغاني كان أحمد رامي نجمهم.
عاشت الغناء كإنتماء وهوية ذاتية وعاطفية. استثمرت نعمة الله عليها بصوتها. وكان بجوارها من استطاع أن يجعلها معجزة من معجزات مصر مثل النيل والاهرامات. كانت قريبة من القصر الملكي وغنت بحضرة الملوك. وكانت من المعجبين بعبد الناصر وبدوره التاريخي الذي وجد له ومعه…
لم تكن الرواية تتحدث عن هذا التاريخ بل كانت تعيشه ونعيشه معها عبر اصطناع روائي يعيد احياء ام كلثوم وعصرها ومن عاصرها. ضمن تقنية روائية نجحت كثيرا في جعلنا ندخل الى تلافيف حياة أم كلثوم. زواجاتها السرية والمعلنة مثلا، وتلافيف العصر الذي عاشته. تأميم القناة والوحدة المصرية السورية ١٩٥٨م والانفصال بعد ثلاث سنوات، وهزيمة حزيران ١٩٦٧م ، وما صاحبها من نكوس نفسي وشعبي وقرار عبد الناصر الرد على العدوان، ولكن وفاة عبد الناصر ١٩٧٠م كانت قاسية على ام كلثوم. ومن ثم مجيء السادات لحكم مصر وحصول عبور القنال والانتصار الغير مكتمل لمصر على الصهاينة في أكتوبر تشرين ١٩٧٣م. ثم وفاة أم كلثوم في عام ١٩٧٥م…
طبعا كانت كل هذه المتغيرات في الحياة العامة لمصر والعرب خلفيات لكل ما مر مع ام كلثوم وإبداعها الفني الغنائي. لقد تعاونت مع اعظم ملحنين زمانها. وغنت كلمات أعظم الكتاب والشعراء. كانت شمسا فنية تضيء سماء الفن وتنيره في زمانها الذي امتد لأكثر من نصف قرن من العطاء. وأصبحت بجدارة خالدة مثل النيل والأهرام. ونحن الآن بعد نصف قرن على وفاتها مازلنا نعيش عصرها وعطائها وفنها العظيم المتألق…
تنتهي الرواية ضمن السياق الذي بدأنا به قراءتنا هذه بالتفاعل بين رشوم وصاحبنا الراوي وعيشهم حياة مرسال الغرام في إقبال وإحجام. مع الحب والكره، مع الوفاء والخيانة، وكيف تنتهي الرواية عندما يفجع رشوم بكون حبيبته خانته مع صديقه الراوي الذي لم يكن يعلم انه يخونه اصلا….
انها تصاريف العواطف التي لا تعرف استقرار والتي تعيش تغيرات النفس والعقل والروح والزمن و تتمظهر في كل وقت بشكل مختلف.
في التعقيب على الرواية اقول:
بداية لا بد من التأكيد على أنني منبهر من الصنعة الادبية الفنية التي اعتمدها فواز حداد في إنجازه روايته الرائعة مرسال الغرام…
نحن القراء منغمسين في نهر الرواية، نعيشها بكل تفاصيلها، تدفق في المشاعر والموضوعات والمعاني، تفلسف حد الوصول الى حالة الجدل. تعمق في متابعة موضوعات الرواية وكأنك أمام باحث يكتب أطروحته الجامعية. دخول في عوالم ابطاله الذاتية حتى أعمق ما تعيشه النفس الانسانية، ودخول في العصر بحيث تجعل الرواية ابنة لزمانها ومكانها وعصرها.
الرواية مكتوبة بدأب نحلة، واصرار نبي، و هوس مخترع، وانجذاب متصوف، واتقان جواهرجي، وإخلاص محب متفاني في حضرة الله…
الكاتب ابن الشام والرواية فضائها بنصفه الشام ونصفه الاخر مصر. ام كلثوم بدرجة أولى وعبد الناصر بدرجة ثانية. هل نحن أمام اعتراف ضمني بالرواية أن مصر وسوريا واحد ضمن عالم العرب. واحد الى درجة اعادة خلق المكان المصري في القاهرة والزمان المصري في عصر أم كلثوم والأشخاص الذين كانوا بجوارها من كتاب وشعراء وملحنين وعازفين… الحياة في خلق آخر هو ذاتنا الاخرى الشام. مصر وسوريا وجهان لقضية واحدة قضية العروبة الحرّة. بها نتواجد بغيابها نصبح عدما…
للرواية رسائل كثيرة اهمها ان الرواية سجل الحياة كما عاشها الناس وهكذا أراد فواز حداد ان يعيد إحياء زمن أم كلثوم وعبد الناصر في روايته هذه. ويريد اضاءة الزمن السوري في نهاية عصر الاسد الاب وبداية عصر الأسد الابن. وأن لا تغيير بالوضع السياسي من فساد وتسلط وهيمنة على كل مفاصل الحياة. وأن الناس وإن حاولوا أن يقولوا في وقت ما ماذا يريدون ؟.وكيف يحققونه بعد استلام الاسد الابن السلطة؟. لكنهم حرموا من حقهم وعادت دورة القمع والتسلط لتكون هي المسيطرة كما كان قبل عقود، وكما سيستمر ليكون ذلك تراكم يؤدي لحصول ثورة قادمة في ربيع ٢٠١١م ، تطالب بإسقاط الاستبداد والفساد والتسلط والقمع واسترداد حقنا بالحرية والعدالة والديمقراطية والعيش الكريم والحياة الأفضل…