في صيف 2007 دُعيت إلى عرس، لابن أحد معارفي في مدينة حماة، عُقد في فندق كان قد شُيّد حديثاً. خلال الحفلة، همس في أذني صديق صادفته، بأن هذا الفندق بُني فوق أرض تحتوي على جثث المئات، إن لم نقل الآلاف من الأهالي الذين قضوا في عام 1982 في حصار حماة. في تلك اللحظة، بدا وجودي في مكان تحته جثث رجال، ونساء، وأطفال، جريمة أصبحتُ أحد مرتكبيها. لم أمكث ليلتي في الفندق، عدت بعد منتصف الليل إلى دمشق.
لم يصلني من أخبار عن مذبحة حماة في وقت حدوثها، سوى النزر اليسير، بدا كأنها إشاعات، ثم بدأت أخبارها خلال السنوات التالية، بالتسرّب عن طريق معارف للناجين من الأهالي، كما جرى تداول ما تفاخر به جنود عن مشاركتهم في التنكيل بالأهالي، كنوع من إضفاء الأهمية، والبطولة على فعلتهم ضد العصابات الإرهابية الإسلامية.
واقعة حماة بدأت بحصار الجيش للمدينة، ثم اقتحامها والقضاء على مسلحي الأخوان المسلمين، هذا ما نشرته مصادر النظام. ولم يُذكر شيء عن ضحايا مدنيين، وإنما قتلى إرهابيين، فبدت العملية نظيفة. مع الوقت، ما أخذ يروج من أقاويل كان يصعب تصديقه، عن دخول الجنود إلى أحياء سكنية، وإخلاء الأهالي من بيوتهم، ثم يؤمر الرجال بالاصطفاف إلى الحائط، وإطلاق الرصاص عليهم، وسحق القتلى بالدبابات، واللهو بالمشبوهين من الكبار في السن، والمشايخ قبل قتلهم. كان غيضاً من فيض،
خلال الحصار، ما ارتُكب في حماة لم يستثنِ القتل، والتنكيل، والتعذيب، مروراً بالاغتصاب، والسحل، وقلع العيون، وصلم الآذان، إلى النهب، وقطع الأيدي لسرقة أساور النساء، عدا الآلاف سيقوا إلى سجن تدمر، جرى إعدام بعضهم فوراً بمحاكم ميدانية، ومَن وصل قُتل بالموت البطيء، خلال سنوات، ومَن خرج حياً من تدمر، لم يكن حياً فعلاً.
لم يُؤخذ ما تردد من أقاويل على محمل الحقيقة، اعتُبرت ثرثرات بُولغ بها، حتى إن أهالي حماة لم يتجرّؤوا على الكلام، عمّا أصابهم، كان ما خلفته المجزرة مروعاً؛ انتهى إلى هيمنة الخوف، والبسطار، وسرايا الدفاع، والمخابرات، والجيش العقائدي.
شجّع هذا الانتصار الهمجي على ارتفاع أصوات الذين يدّعون العلمانية الصلبة، ومن فرط شراسة تقدميتهم، اعتبروا محو الإسلام أولوية لبناء صرح الاشتراكية والتقدم، مع أن المثقف، حتى لو كان يسارياً، فالعلمانية على هذه الصورة مهددة بالهمجية، كما لا يصح الصمت على الجرائم، طالما أنه يعرف أن السلطة مجرمة، كما لا يجهل أن عنف المتأسلمين هو الوجه الآخر لعنف السلطة.
في الواقع، ارتكبت الطليعة المقاتلة مذبحة في حماة، ضد مسؤولي الحزب، والمخابرات الذين ظفرت بهم، ما يستدعي محاسبتها ضمن القانون، لكن ما فعله النظام أشبه، بما تفعله عصابة مجهزة بالمدرعات والأسلحة الثقيلة، وليس دولة ينبغي عليها ألا تتصرف على هذا النحو من العنف العشوائي والمطلق، دفع ثمنه الأهالي العزّل.
استغل النظام المجزرة؛ ليعطي درساً دموياً ليس لأهالي حماة فقط، وإنما للسوريين جميعاً. كانت فرصة رسّخ فيها النظام الصاعد وجوده فوق أشلاء الجثث. وكان في إسهام المخابرات بنشر الشائعات، حول الهمجية التي مُورس بها القمع، تكريس لتربية الشعب السوري التي تصاعدت وسائله، وبسرعة حثيثة في حرق المراحل، نحو الإخضاع الممنهج، كانت أذرعها الأجهزة الأمنية، وسرايا الدفاع، والقوات الخاصة، ومن بعد الشبّيحة.
بدأت بكتابة روايتي “عزف منفرد على البيانو”، وهي رواية ستُمنع حال صدورها حسب المعتاد. توخيت فيها بعض المواربة، فالموضوع حساس، لكنه استولى عليّ، مع هذا كان من الطبيعي حضور شخصية رجل الاستخبارات، يد الأمن الطويلة، وشاب قتل المتأسلمون له أباً أو أخاً، ما الذي سيحدث عندما يجري توجيهه، نحو خصمه المفترض، وهم الأهالي المتدينون، وتصويرهم مبعث الخطر؟ ألا يسهم في إبقاء قصة الثأر حاضرة، حتى بعد مرور ربع قرن؟ لم يعد الثأر يعني شخصاً، أو أشخاصاً، أو تنظيماً، بعدما وطّدها النظام لدى الموالين له، على أنها انتقام مستمر، أكثر منها قصة بلد نُكب بنظام دكتاتوري همجي من طرف، ومن طرف آخر بعقائد باطلة استُثمرت على أسوأ وجه من الإرهابيين بأنواعهم، الدولة والمتأسلمين، أثمر وضعاً يجدّد العداوات والكراهيات بين الطوائف، باستعادة قصة المظلومية لصالح النظام، ما يعطي لأجهزته الحقّ في الإعدامات، ولو لمجرد الشبهة. كانت الاعترافات في الأقبية تُنتزع بتعذيب من قسوته يتمنى المعتقل الموت، وفي السجون يُغيّب المعتقلون لأمد غير محدد.
لم يعد حضور رجل المخابرات، سوى توطئة لحضور المثقف العلماني، والصديق المؤمن، وغيرهم لاستكمال صورة عناصرها منتزعة من واقع دولة شمولية نشرت المخبرين، ودوريات الأمن؛ بحجة استئصال الإرهابيين، تعتقل، وتعذب، وتقتل، وتشنق بزعم توفير الاستقرار والأمان. كان الخنوع الضمان الوحيد لاستمرارية النظام.
كعملية روائية، أدى تتبع المجريات إلى تشييد معمار متشابك بالرعب، والتيقظ والحذر والأوهام عن دولة تمتلك وحدها الحقيقة، وهذه الحقيقة قاتلة، تحرض على معادلة غير قابلة لأي حل، وجود أحدهما يلغي الآخر. فلا يجب السماح بالانحياز إلى إسلام معتدل، هذا الإسلام بالذات بات هو المطلوب القضاء عليه، باعتباره الحاضن لإسلام متطرف، باتت وكأنها مشكلة علمانية على العلماني أن يجد حلاً لها، بالتشدد ضد الدين، أو صناعة دين آخر، والأفضل شعب بلا دين.
كانت المفاجأة في آذار 2011، على الرغم من مقدماتها في الربيع العربي في تونس، ومصر، وليبيا، سرعان ما انتقل إلى سورية على شكل احتجاجات عارمة آخذة بالانتشار، كانت في الواقع لا أقل من انتفاضة. اتجه تفكيري إلى أنه في حال أدت تطوراتها إلى ثورة تسقط النظام، فلابد أننا نشهد حدثاً تاريخياً، سينجم عنه تحولٌ، يضع خاتمة للدكتاتورية. الثورة لم تتأخر، أعلن النظام الحرب على الشعب، فعمّت المظاهرات سورية كلها.
أمام هذا المشهد لم أفكر، إلا في الكتابة عن هذا الذي يحدث، وإذا كان هناك فكرة محورية ستدور، حول ما بدا أنه رواية، فهو الإجابة عن سؤال: لماذا قامت الثورة؟ كمحاولة للتعرف إلى طبيعة النظام التي أدت إليها.
كان من الطبيعي بحكم مشروعي الروائي الذي بدأ برواية “موزاييك دمشق 39″، ورواية “تياترو 1949″، ثم الذهاب إلى عقد السبعينيات ألّا أغفل بعده عقد الثمانينيات، لكن انخراطي في قضايا الفساد السياسي، والثقافي لم يسمح بمقاربة تركيبة النظام في العمق. وعندما تهيأت الفرصة، فرضت حماة نفسها واقعياً، هذه المرة بات الذهاب إلى المجزرة لا بديل عنه، وقائعها وما حفّ بها ولازمها، وما تولّد عنها، والنتائج التي أدّت إلى هيمنة النظام على السوريين، وكتم أنفاسهم، وتغلغل الفساد في قطاعات الدولة، لا سيما القضاء، وما أنتجه من مظالم، هذه كانت صورة سورية الحديثة، سورية الأسد.
حسب تقديراتي، ستغطي الرواية زمناً هو عمر النظام، ما يحتاج إلى توثيق. فتجمّع لدي خلال بضعة أشهر كمّ هائل من الملفات، تضم مراجع متنوعة من كتب التاريخ، والمذكرات السياسية، والسير الذاتية، وآلاف المقالات الصحفية، واليوميات، وأرشيف عدة صحف عربية، وكانت قد صدرت الكثير من الكتب عن وقائع ما جرى خلال الحصار، ومعاناة المعتقلين في سجن تدمر. كان رأيي المسبق، إذا كان لأي رواية علاقة بالتاريخ، فلا يجوز التلاعب به لخدمة أية أغراض، ولو كانت وطنية، ينبغي النظر إليه، كما هو في زمانه.
لم يكن التوثيق إلا الأرضية التي تستند إليها الأحداث في رواية “السوريون الأعداء”، وبناء عوالمها من ناحية المكان؛ حماة، دمشق، سجن تدمر، بيروت… والزمن السياسي، الحركة التصحيحية، وما تلاها من محاولات؛ لتثبيت أركان النظام، ووضع اليد على لبنان، خلال التواجد الفلسطيني. هذه الأرضية انفتحت على الشوارع، ومهاجع المعتقلين والمحاكم، والقصر الجمهوري، كان التنقل بينها على ثلاثة خطوط، غطت المجزرة، والوضع الاجتماعي، والفساد المُعمّم، والتعذيب في تدمر، وآلية الصعود في النظام، ومجريات السياسة. ما كشف عن تركيبة النظام، كشبكة معقدة من المصالح، والمفاسد والطموح إلى التسلط، تتجذر، وتتمدد مع الوقت، لا تحتل فيها سرايا الدفاع إلا إحدى الواجهات، بينما تلعب فيها الأجهزة الأمنية الدور الفعال والأكبر.
بالإشارة إلى أن بعض الكتاب والروائيين؛ كي لا يصطدموا بالنظام، أو يحافظوا على صلتهم الطيبة به، حمّلوا مسؤولية مجزرة حماة بالكامل إلى سرايا الدفاع؛ لأن شقيق الرئيس كان مطروداً من البلد؛ لمحاولته وراثة أخيه، أو تقاسم السلطة معه، كانت تبرّئ النظام، بسردية تُعفيه من الاتهام. وفي ما بعد قدّموا سرديات تُحيل انتفاضة السوريين إلى الإرهاب. وتناولت انتقاداتهم الجريئة للأجهزة الأمنية، في تجاوز صلاحياتها، إلى أخطاء فردية لضباط استغلوا مناصبهم.
جرى التركيز في الرواية على الشخصيات، فهي مفتاح الأحداث وتطورها، من دون مبالغة في تصرفاتها الدموية والانتهازية، أو الإنسانية، فأنا أدع شخصيات أعمالي، تعبر عن نفسها، وأفكارها بطلاقة، مع الحرية الكاملة في تبرير أفعالها، لا أتخذ منها مواقف مسبقة. كل شخصية محاطة بظرفها الاجتماعي، وطموحاتها الفردية، ومبرراتها الأخلاقية، وحاجاتها الحياتية، على اختلاف خيرها وشرّها.
كانت “السوريون الأعداء” تجربة كبرى، كشفت لي عن الدكتاتورية في مرحلة التدمير البطيء للمجتمع، وتحويله إلى قطيع، وأيضاً تحولات النفس البشرية، ما يوصلها إلى القتل لتحقيق طموحاتها، كما كانت تجوالاً مؤلماً في الخراب الإنساني، وهلهلة الثوابت الأخلاقية في البوتقة التسلطية، واضطراب الظروف الموضوعية التي يجري توظيفها، والتحكم بها للهيمنة على المجتمع، واختطاف طائفة، وجعلها خزاناً لمشاريعها، وحقنها بتاريخ بغيض، كمسوّغ للتسلّط.
أن تكتب رواية عن حدث كان الأخطر في التاريخ السوري، والأبرز على صعيد المنطقة، كانت مسؤولية أخلاقية، وقضية ضمير، يُنصف هؤلاء الذين انحازوا إلى الحرية، ويعدّون بالملايين؛ منهم مَن استشهد، أو سيقوا إلى المعتقلات، أو نزحوا وهجّروا. ما حدث في حماة، كان الكارثة الإنسانية الأكبر في القرن الواحد والعشرين.
أخيراً، إذا كنت قد استعنت بالتاريخ، فالرواية عن مأساة إنسانية. أنا مدرك أن الرواية ليست وثيقة تاريخية، ولا الروائي مؤرخاً، لكن مع هذا لا يجوز للرواية أن تُغفل الحقيقة.
-
المصدر :
- العربي القديم