تأخُذ حرب الإبادة في غزّة أبعادها المتكاملة تحت أنظار العالَم، ما أدّى إلى انقسامه إزاء إبادةٍ هي محرقةٌ بأوضح صورها دونما مواربة. فالقصف عشوائيّ والقتل متعمَّد، لا يستثني طفلاً ولا امرأة أو شيخاً، والتنكيل الهمجيّ بالمدنيّين العُزَّل إلى حدود مُهينة جدّاً من دون أية مبالغة. هذه الوحشية لا تُثير لدى أميركا أكثر من القلق، ولا أكثر من التساؤل عمّا إذا قاربت “إسرائيل” على إنهاء عمليات الانتقام، الجواب سلبي. مع هذا، في الوقت الأميركي متَّسعٌ للقضاء على “حركة حماس” بأيّ شكل كان، بلا ضوابط، وما زال الضوء الأميركي أخضر.

أمّا الحكومات الغربية، فبوسعنا تصوُّر كيف يُشارك قادة دول، ورؤساء حكومات، وسفراء، وسياسيّون، وصحافة، ومذيعو أخبار، ومثقّفون في هذا الانتقام، سواء بالدفاع عنه، أو بتجاهُله وإنكاره. في “إسرائيل”، طالَب أكثر من مسؤول بقصْفِ غزّة بالقنابل النووية، هذا ما اقترحه ناطقون باسم “الشعب المُختار”. ولا ينبغي أن نستغرب من صحافي إسرائيلي يقول في مقابلة تلفزيونية وهو يضحك بتشفٍّ: “لا أستطيع النوم من دون مشاهدة بيوت غزّة تنهار، أريد رؤية المزيد والمزيد من البيوت والمباني والأبراج تتهدّم، لا أريد أن يكون هناك مكان يعودون إليه”. بينما المُذيعة والمُشارك في الحوار يضحكان، مجرّد أنه يُلقي نكتة.

الذين يتكلّمون على هذا النمط في “إسرائيل” هُم غالبية لا تقلّ عن الثُّلثين، وعلى شاكلة حكومة الحرب. لم يحدث تحوُّل كبير في الداخل، اعتبروا أنّ الفلسطينيّين يستحقّون هذا الجحيم دونما تمييز بين المُقاتلين والمدنيِّين، وما يطالبون به إحالة غزّة إلى خراب، أو لا وجود لغزّة ولا لأهلها. لا ندري إن كانوا قد تعلّموا أو علَّموا النظام السوري دروس الإبادة الحديثة، مع أنّ لكلٍّ منهما سوابق في القتل، كان دائماً حسب الادّعاء: لا تتعاطفوا مع الضحايا، لقد فعلوها لأنفسهم. وهكذا لا مبرّر لأيّ شعور بالذَّنب تجاه عشرين ألف شهيد، بينهم أكثر من ستّة آلاف طفل، ولا أهمّية للجرحى والمرضى والمُعاقين. أمّا أين يذهب مليونان من الأهالي، فإلى اللامكان، المطلوب اختفاؤهم بالموت أو الرحيل. إنهم السبب فيما حلّ بهم.

ورثت الصهيونية من الرجل الأبيض نزعة الإجرام والعنصرية

هكذا تقول، أيضاً، بعض الحكومات الغربية سرّاً وعلانية، فَهُم مع الإدانة المُطلقة لأيّة محاولة فلسطينية في الانتفاض ضدّ الاستيطان، والمطالبة بدولة فلسطينية، المسموح هو الصبر والتغاضي عن الاضطهاد اليومي، وإنْ حاول مسؤولون غربيّون من أصحاب ما يُدعى بالضمير، خِيفة على “إسرائيل”، التحذير من خطر تقويض السُّلطة القانونية لـ”إسرائيل” في حقّها بالدفاع عن نفسها، فنصحوا بعدم ارتكاب أفعال تُفقدها إنسانيتها، لئلّا يفقد جيشُها ما يتحلّى به من روح أخلاقية مزعومة. وبهذا يبلغ النفاق الغربي حدوده ما بعد القصوى، بالنظر إلى ما يُمارَس في غزّة والضفّة الغربية، إذ متى تقيّدت “إسرائيل” بالقانون أو الأخلاق؟

لن نفهم مواقف الغرب “الإنسانية” إلّا بالعودة إلى ما قبل القرن الماضي، فالألمان الأكثر تشدُّداً تُجاه الإبادة، واقعون تحت السطوة الرهيبة لذكريات “الهولوكوست”، لا يُحاولون التنصّل منها بأنها صناعة الحزب النازي، وإنما بمؤازرة إبادة الفلسطينيّين، فيُدافعون عمّا ترتكبه “إسرائيل” بتبرئتها من “هولوكوست” غزّة، كأنّها تدفع دَيناً مترتّباً عليها دونما انتهاء، عسى تسامحهم عليه، مُتجاهلين إرهاب الدولة الإسرائيلية وممارساتها العنصرية والاستيطانية المكشوفة، وجرائم حرب باتت موصوفة، و”أبارتهايد” بكلّ معنى الكلمة.

آخر المحارق الأميركية ما جرى في العراق وأفغانستان

هذا ينطبق على الكثير من الدول الأوروبية، فالماضي الذي جمعَهم واحد، ليس الألمان وحدهم مَن كان لديهم سوابق في الإبادة، “الهولوكوست” ليست المحرقة الوحيدة، ولا الأُولى في تاريخ البشرية، وكما يبدو لن تكون الأخيرة. لكلّ دولة استعمارية محارقها؛ الإنكليز والفرنسيون، والهولنديّون والبلجيكيّون وغيرهم، كلٌّ منهم جرَّب حُظوظه في الاستعمار، وارتكب من الفظائع ما لا يتصوّر، ونظروا إلى السكّان المحلّيّين على أنهم عنصرٌ لا قيمة له، والأدقّ أنهم “ليسوا بشراً”.

أمّا المستعمر المُجرِم فهو الإنسان، ما دام أنه يعرف كيف ينهبهم ويقتلهم بأبشع المِيتات، وبما أنهم وثنيّون، لا يتميّزون عن الحيوانات التي بلا دين. لأنهم لا يعرفون الإله الأوروبي، فلا استغراب من وقوفهم إلى جانب المحرقة في غزّة، طالما أنّ الفاعل هو “الديمقراطي الوحيد” في الشرق الأوسط، ومن نَسْل ديمقراطيّاتهم، فالوجود الإسرائيلي يسوّغ ماضيهم الاستعماري، حتى بات مسموحاً تكراره في هذا العصر. إنّ ما يجري في غزّة بكلّ أبعاده الهمجية، ظاهرة أوروبية. كرّس التدخّل الأجنبي “إسرائيل” في بلادنا، التي ازدهرت فيها جميع الديانات الإبراهيمية، لكنْ كأنّ الماضي الاستعماري لم يرحل طالما أنه يتجدّد بالمحارق.

أما أميركا، فتفخر بماضيها “النظيف”، فهي لم تستعمر شعباً في الماضي، لكنّها عوّضت عنه، بماضٍ أسوأ بإبادة الملايين من السكّان الأصليّين، وارتكاب جرائم بحقّ السُّود الذين اختطفتهم من بلادهم، وتاجرت بهم، وباعتهم واشترتهم واستعبدتهم، وما زالت تُمارس عليهم العنصرية، وتستثمر قصص حياتهم البائسة في العبودية، في أفلام هوليوود “الإنسانية”، طالما أنها تدرُّ مليارات الدولارات في شبّاك التذاكر. هل وضعت هذه الأفلام حدّاً نهائياً للعنصرية تُجاه السُّود؟

لم تتوقّف محاولات أميركا، الدولة غير الاستعمارية، عن استدراك ماضٍ نظيف، بآلة عسكرية جبّارة لتشييد عالم قذر. فمُنذ منتصف القرن الماضي، تسعى إلى نشر محارقها، وليس آخرها في العراق وأفغانستان.

المُشكلة ليس عند الأوروبي العاديّ، إنها لدى سياسيِّين لا تُخفي مواقفهم المُنحازة عقليّتهم العنصرية، ما يمنحهم الشعور بالتفوّق اللّاإنساني البغيض، تتشبّث بهم عُقدة الرجل الأبيض. ورثت العقلية الصهيونية منه النزعة الإجرامية، فالصهيونية قامت بتربية الشعب الإسرائيلي على التفوّق والحقد والغطرسة والجشع، شعبٌ مريض لا يُرجى شفاؤه إلّا بالعودة من حيث جاء.

بالنسبة إلى “حركة حماس”، مهما كان نهجُها يبقى ذلك مفهوماً، حتى أدّى العنف إلى أن يكون ضرورياً، تجاه العنف الإسرائيلي، وقضم المزيد من الأراضي واحتلال لا آفاق له سوى “الترانسفير”، أو المحرقة تلو المحرقة، وهكذا يصحُّ القول عن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إنّ الإسرائيليّين جلبوه على أنفسهم.