الحرية قضية خطيرة، هذا ما تعلمناه في العقود الأخيرة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتحلل الاشتراكيات الأوروبية، فالحرية أسقطت هذه الأنظمة، وليس الاقتصاد وحده. بعد انهيار جدار برلين، كان الظن أن الحرية ستكتسح العالم كله، وعهداً من الحريات سيشمل بقاع الأرض كلها. إذ كان العائق الوحيد هو الدولة الأم، روسيا الدولة الشمولية. كانت السند الأكبر للدكتاتوريات الوليدة لدول العالم الثالث، تستمد منه الخبراء والمظلة الإيديولوجية الداعية لتصنيف الشعب إلى برجوازيين رجعيين ووطنيين تقدميين من عمال وفلاحين.

بالغ البشر في تفاؤلهم، وبنوا الآمال الكبار، فنسائم الحرية هبت من روسيا، لكن سرعان ما أحبطت جميع التقديرات الطيبة، فالاتحاد السوفييتي بدل التمتع بالحرية دخل في الفوضى والفاقة، ووجدت المافيا بؤرة صالحة لتنمو وتزدهر. أما البيروسترويكا التي كانت النذير بالتغيير نحو عهد ديمقراطي، فانطوت وارتد رجالاتها عنها، وعما بشرت به، أجهضها يلتسين ورحل، بعدما أسلم الدفة لبوتين القادم من جهاز المخابرات، ليعيد تأهيل روسيا لديمقراطية شكلية مع قدر هزيل من الحريات.

لم يشأ الصينيون أن يفوتهم قطار الحرية، فهبت التظاهرات ليبلغ عدد المتظاهرين بحد أقصى في ميدان “تيانامن” إلى مليون شخص، طالبت الاحتجاجات بالديمقراطية، ما أدى إلى انتشار المؤيدين في مئات المدن، بما في ذلك شنغهاي، أكبر مدن الصين. لم يطل الوقت، عندما جرى تعبئة الجيش في بكين، وبدأ هجومه على المعتصمين في ميدان “تيانامن”، فتداعى الحلم السلمي العظيم للديمقراطية، وغدا كابوساً مروعاً. ولقي نحو 500 شخص على الأقل حتفهم، لكن مصادر موثوقة تحدثت عن 1000 ضحية.

العالم الذي أفقدت الحرية توازنه، سرعان ما استعادها، لا سيما في بلدان آسيا وأفريقيا، حافظت الدكتاتوريات على مواقعها مع مزيد من القمع، لئلا تنقلب عليها شعوبها التي استيقظت على الحلم الديمقراطي، وتستفيد من الدرس الصيني. أو ماذا لو استعادت الحرية نشاطها في روسيا؟ عندئذ قد تندلع في البلدان المحرومة منها. ما يعني أن هناك انتظارا آخر قد بدأ، لكن من دون جدوى. أما الدرس فسوف يكون هذه المرة؛ يجب الاعتماد على الداخل وعدم توخي الأمل من الخارج.

في الواقع، لم تكن الحكومات الديمقراطية في العالم على استعداد لمساعدة موجات التحرر، بعد الزلزال الروسي سوف تحاول التهدئة طوال العقود التالية، وتعمل بأناة على إيقاع الثورات الملونة، لتستطيع استيعابها في الحاضنة الأوروبية. وفي حال ظهرت بادرة حرية في تلك البلدان البعيدة عنها في القارات الأخرى، فيستحسن بقاؤها محاصرة في البؤر التي تظهر فيها، لما قد تحدثه من أعراض ثورية في عالم غير مستقر، لا يمكن التحكم بنتائجها، عدا عن مصالحها وعلاقاتها الجيدة مع دكتاتوريات تلك البلدان. لذلك يمكنها الانتظار، الحرية بالنسبة إليها حالة غير مستعجلة، أصلا لم تعتد عليها.

في الواقع، لم تكن الحكومات الديمقراطية في العالم على استعداد لمساعدة موجات التحرر، بعد الزلزال الروسي سوف تحاول التهدئة طوال العقود التالية، وتعمل بأناة على إيقاع الثورات الملونة

في الوقت الذي اعتقد العالم، أن الحرية خارج أوروبا قد طواها الزمن، انطلق نداء الحريات من العالم العربي، الذي احتوى على أعتى الدكتاتوريات المزمنة، فإذا كان إسقاط صدام حسين قد سبق بوساطة الأميركان، فما نتج عنه، لم يمنح الحرية للعراق، بل ورطها في حرب أهلية مذهبية، مع تسليم العراق بالتدريج إلى إيران، لتصبح الفاعل الأكبر في سياساته المتعثرة في الفساد والخلافات المستحكمة بين فرقاء لا تريد التوافق، قدر ما تريد الاستيلاء على الدولة.

شكل الربيع العربي إشكالا كبيرا للعالم، باجتياحه خمس بلدان دفعة واحدة، تونس مصر ليبيا اليمن وسوريا، وسوف يُحبط البلد تلو الآخر، بحرب أو انقلاب، أو تبديل دكتاتور بآخر. لم يكن تدخل الديمقراطيات بأنواعها وعلى رأسها أميركا إلا بالسيطرة على محاولات التحرر، ومحاولة ضبطها، لئلا تتمدد إلى بلدان مجاورة، بإحكام الطوق حولها وإلهائها بالإرهاب الذي وجد مرتعاً خصباً في سوريا والعراق.

الحرية قضية خطيرة من كثرة الطلب عليها، وسهولة انتشارها وسرعته، خطيرة لا تقف في وجهها حواجز، تتسلل من خلال الحدود، خطيرة من فرط ما تبعثه من آمال، وما تحصده من إحباطات، خطيرة في التربص بها، ونوايا القضاء عليها، خطيرة في ما تخلفه من مآس وضحايا ليس بالمئات أو بالآلاف وإنما بالملايين، هذا إذا وضعنا في الحسبان ضحاياها من المهجرين والنازحين.

لماذا العالم كله متطير من الحرية، وما خطورتها؟ مع أن الحرية حسب الفيلسوف جون لوك بسيطة جدا، إنها العيش ضمن القوانين الطبيعية في الحياة، وأن يتمكن الإنسان من اتخاذ قراراته الشخصية وفق إرادته، ومن دون أن يستجدي هذا الحقّ من أحد.

تحدد النظر إلى الربيع العربي، بأنه فلتان شعوب لا يمكن التنبؤ بما ينجم عنه، وإذا كان قرار اتخذ فهو الحد منه، بغية تحلله، لكن بعد درس، لا يمكن أن يكون فعالاً، إلا بغض النظر عن الدكتاتوريات في قمعه. ولقد كان وأثمر في هذه الدول الخمس، بالتالي لم يتغير شيء إلا نحو الأسوأ، كانت تجربة دُفع ثمنها باهظة جداً.
هذه التجربة لم تمنح هذه البلدان تصورا واقعيا للحرية على الأرض، كان التصور الأقوى هو للقمع الذي رافقها، وربما يجب أن نعمل خيالنا، لنكون أقرب إلى الفهم، لندرك ما الذي يشكل المانع لها، إضافة إلى الدكتاتوريات؛ إنه العالم أيضاً، ليس لديه متسع لتحرر جميع الشعوب، وكأن في افتراض تحرر بلدان مستعبدة للطغيان، ما ينتقص من الحريات الفائضة لشعوب الديمقراطيات. يجد سنده في تكريس إجماع عالمي على الخيار الآخر، في نموذج الصين وكوريا الشمالية كأمثلة يجب أن تشمل نصف العالم، ما يملي على البلدان التي تنشد الحرية، التنازل عنها، وتقليد النموذج الأكثر نجاحاً وهو الصين باتجاهها نحو النظام الرأسمالي، وفي القبض بيد من حديد على السلطة السياسية، ووضع ما يزيد عن مليار ونصف تحت رقابة صارمة تصل إلى حدود غير معقولة، لكنها ضمنت لشعبها الطعام والأمان، فلماذا التفكير، أي لماذا الحرية؟

بهذا نفهم كم تشكل الحرية خطراً على البشر، إنها رفاهية سياسية مؤذية، قد تحرمك من الخبز والنوم باطمئنان؛ لكن ما دام هناك من يفكر عنك، فلن تجوع أو تشعر بالأرق.