فواز حداد أيقونة الرواية السورية بجدارة، قرأنا له أغلب إنتاجه الروائي عبر عقود. انتصر للحرية والكرامة الانسانية والعدالة والحقيقة والصدق مع الذات قبل الصدق في سرد حقائق التاريخ… رسم معالم كتابته الروائية منذ انطلاقتها في رواية موزاييك – دمشق ٣٩. الذي نشرها أوّل مرة عام ١٩٩١م.
في موزاييك ابتدأ فواز حداد بتوثيق حال سورية منذ أيام الاحتلال الفرنسي لسورية، وتتابعت بعدها رواياته توثق حال سوريا بعد الاستقلال ايام حكم الانقلابات العسكرية ثم الوحدة المصرية السورية وبعد ذلك غاص عميقا في واقع سوريا في عهد النظام الاستبدادي السوري في تنويعات مختلفة يجلي حقيقة الواقع الاجتماعي والسياسي للدولة والمجتمع والنظام الذي هيمن على حياة الناس وأرزاقهم وانفاسهم وكل ما يتعلق بهم… كما كتب روايات تتحدث عن العمق العربي لسوريا وخاصة العراق…
بعد الثورة السورية التي حصلت في ربيع ٢٠١١م كتب فواز حداد عدة روايات متتابعة كشف الستر عن النظام وعرّاه وكأنه يقول عبر رواياته : لقد قمت بدوري في ثورة الشعب السوري وانا واحد منهم…
في رواية موزاييك – دمشق ٣٩ التي تعتبر باكورة الأعمال الروائية لفواز حداد أراد من خلالها أن يعلن وجوده الروائي بكل جداره. التي اعتمد فيها فواز حداد على محاور عدة في نسقه الروائي. الزمان هو زمان المستعمر الفرنسي في سورية، والمكان هو دمشق المدينة العريقة بكل تفاصيلها في ذلك الوقت. حيث تعيد الرواية احياء الأماكن والبشر داخلها وأحوالها وتطوراتها. الحدث العام كخلفية حاضرة هو كل ما يحصل في سورية في سنوات الاحتلال. السياسيين السوريين رموزهم أدوارهم كذلك المستعمر الفرنسي مسؤوليه و عقليتهم وأدوارهم وأدائهم السياسي والمجتمعي. الناس في دمشق وحضورهم المتنوع في التصدي للمستعمر عبر عقود استعماره حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية …
في الرواية استحضار للموروث الشعبي معرفة المستور و استحضار الجن، ومعرفة المخفي ومحاولة التحكم في المستقبل…
في الرواية نجد الحب المستحيل المتمنى والمرجو والغير قابل للوجود، المتحول الى هاجس يصل لدرجة الهوس المرضي الذي يدفع صاحبه للجريمة. هو القاطرة التي تجر قطار الرواية في جميع تطورات أحداثها نحو نهاية مفتوحة ليست نهاية بل هي بداية جديدة لحياة جديدة مستمرة للأبد…
تبدأ الرواية من رصد حياة ست الشام الفتاة الدمشقية ابنة الأصول والدها أحد رجالات الشام نراها في صحبة مرافقتها في عربتها حيث تلمح يوسف سرحان، حصلت لمعة الحب واستولت على نفس الاثنين. لكن لا أحد منهما يعرف الآخر… ستلاحق ست الشام هواها وتذهب الى عمق الشام القديمة تستحضر رجل المندل ومن خلاله تتعرف على يوسف سرحان الشاب الذي احبته. واصرت ان تبقى تلاحقه كظله أينما كان دون دراية منه…
يوسف سرحان ابن عبد الله والده الذي كان أحد تجار دمشق الكبار والذي عاصر بداية دخول المستعمر الفرنسي بقيادة غورو الى سورية ومواجهة الناس لهم وصراعهم معهم في فترات متعددة. مشاركة الوالد في الثورة مع أهل الغوطة. واستشهاد الكثير من أصدقائه في مواجهة المستعمر. وبيعه لبعض أملاكه ليؤمن تموينا وسلاحا للثوار… والد يوسف مرض بعد ذلك آمن بأن طريق العلم يؤدي إلى مواجهة المستعمر الفرنسي. بعث ابنه يوسف ليتابع دراسته في مكتب عنبر في دمشق. ثم ارسله الى باريس ليتابع دراسته ليصبح محاميا ويقوم بدوره في بلاده سوريا عندما يعود… مرض والد يوسف زداد فبعث يستدعي ابنه الى دمشق على عجل انه يريد تزويجه من ابنة أخيه اليتيمة امينة. أما هو فكان لا يزال يعيش على ذكرى الفتاة ست الشام التي سكنه هواها ولم يصل إليها، كما انه دخل في صلب الحياة الباريسية فقد اصبح له حبيبة تعيش معه ويعيش حياته وليس في باله اي تفكير بزواج وخاصة من أمينة التي لا يذكر منها إلا طفولتها… لكنه سيتزوجها بناء على الحاح الوالد الذي اصر على ذلك وهو على فراش الموت. تزوج يوسف من امينة وبقي معها فترة قليلة من الزمن وغادر الى باريس يتابع دراسته وسيرة علاقته السابقة مع حبيبته الباريسية. حملت أمينة وأنجبت له طفلا اسمه عبد الله على اسم والده… كانت ولادتها صعبة وحصل نزيف فتم استدعاء طبيب معروف من العائلة ليعالج امينة ليتمكن من انقاذها ولكنه يقع في حبها…
كان الطبيب واحدا من الشخصيات المعتبرة من المنتفعين من المستعمر الفرنسي ومحسوبين عليه. كان له صديق صولاني ضابط فرنسي سوري الأصل كان يعمل في جيش الفرنسيين. كانا يتواصلان ويبحثان عبر علاقتهما عن فرص استغلال علاقتهم بالفرنسيين ومناصبهم لمزيد من المكتسبات المادية وبشكل غير مشروع. الضابط صولاني يريد شهادة الطبيب ليسرق من مؤنة الجيش الفرنسي والطبيب يريد قوة الضابط ليحصل على المرأة التي عالجها واحبها…
سيكتشف الطبيب بعد التحري حول المرأة أن زوجها يوسف سرحان ولكي يصل اليها عليه أن يزيح يوسف من طريقه. كان لا بد أن يلفق له تهمة تؤدي الى سجنه أو قتله… تُصنع العاب وحيل وتهم ومناورات ومطاردات وتختلق أوهام وتتابع هواجس حتى يتم قتل يوسف. لكن يوسف لا يُقتل. تُقتل امينة الزوجة التي رضيت أن تكون الضحية بدل زوجها يوسف الذي أدرك أن هناك مخططا لاغتياله وقد حصل وأطلق عليه النار أصيب وعولج…
ستصل ست الشام الى يوسف بعد مطاردة عبر المندل والجن والمراقبة الواقعية. لتكون هي بديل زوجته التي ضحت بنفسها فداء له. ولتكون أمّا ترعى ابنه عبد الله الصغير…
تنهي الرواية والمطاردة بين الطبيب والضابط صولاني ويوسف لم تنتهي، الكل يترصد بالكل ولكن لا منتصر بها…
اعتقد ان هذا الحدث الروائي الذي يمثل عصب الرواية كان هو المدخل لمتابعة ما يحصل في سورية على المستوى الشعبي حيث لم تتوقف الثورات والتحركات الرافضة للمستعمر الفرنسي. كما أنها ترصد حراك الطبقة السياسية التي كانت في سورية والتي قادت التفاعل مع المستعمر بوجوه مختلفة. البعض ارتضى الوجود الفرنسي إنتداب وكان بعضهم رؤساء وبعضهم رؤساء وزارة . الاغلب الاعم منهم كانوا في موقع الرافض للانتداب الفرنسي وعملوا على مواجهته وفق الممكن المتاح. هاشم الاتاسي وعبد الرحمن الشهبندر وفارس الخوري وغيرهم كثير عملوا عبر سنوات طويلة لمواجهة خطط الفرنسيين التقسيمية للدولة السورية ومنعها من تثبيت تقسيم سورية إلى عدة دول افشلت ذلك. كما رفضت سلخ لواء اسكندرون عن سوريا واعطائه للأتراك مقابل وقوف تركيا مع فرنسا والغرب في حربها التي كانت على الأبواب مع ألمانيا فيما يعرف بالحرب العالمية الثانية، لكن سلخ لواء اسكندرون حصل واصبح جزء من تركيا. كما عمل رجالات الوطنية السورية لخلق معاهدات تكون أقرب لمصلحة السوريين. لعبة التفاوض و الشد والرخي كانت دائما لعبة المستعمر المفضلة. تعلن الرواية دون مواربة أن رجالات الوطنية السورية لم يكونوا موحدين في مواقفهم من متطلبات السياسة السورية. وهذا جعل المناورة الفرنسية تنجح في عدم التقدم الجدي لتحقيق صالح السوريين وهو الاستقلال اولا واخيرا ، لكن الاستقلال سيحصل بعد هزيمة الفرنسيين في الحرب العالمية الثانية وخروج كل السوريين ضد الفرنسيين والانكليز ايضا وإعلان استقلال سورية عام ١٩٤٦م…
في التعقيب على الرواية اقول:
لقد ظهر التمكن الأدبي في رواية فواز حداد الاولى في النسيج المتماسك بين المعاش الحياتي وبين الوهم والمتخيل والمتمنى بحيث صنعت حياة موازية للحياة. ثم صانعة للحياة.
ثم ككل روايات فواز حداد بعد ذلك يكون الحدث الروائي عنده هو الرافعة التي تضع الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي على كل المستويات تحت الضوء. محولا روايته الى شهادة على هذه المرحلة: المجتمع الدمشقي التواصل الصميمي بين الشام وغوطتها وتلاحمهم في مواجهة المستعمر الفرنسي. الدور المجتمعي التنويري والايجابي لرجالات سورية الوطنيين الذين تلقفوا سورية الخارجة من العهد العثماني ثم متحلقين حول الملك فيصل لصناعة مملكة سورية دستورية ديمقراطية. ثم اغتيال الحلم واستعمار سورية من الفرنسيين. وعدم استسلام السياسيين الوطنيين لذلك و خوضهم معركة مواجهة الفرنسيين وخططهم مع قوس واسع للاختلاف بينهم من مهادن الى مواجه إلى مطالب بالحقوق. أفلحوا في مواجهة التقسيم وافلحوا في وأد الفتنة في زرع الصراع الطائفي والعرقي. حيث عمل الفرنسيين على خلق فرق عسكرية تابعة له من الدروز والعلويين والاكراد… لكنها لم تستطع أن تضرب التوحد المجتمعي. حتى جاء عصر الاسد الاب وعاد يعمل لخلق الفتنة الطائفية العرقية ليستخدمها ضد الشعب السوري كله…
ختاما لا نستطيع إلا أن نربط ما تحدثت به الرواية عن ما قبل قرن عن واقع ما نعيشه اليوم حيث يعمل شعبنا السوري على إسقاط الاستبداد بعد أن نجح قبل عقود في إسقاط الاستعمار. الاستبداد الذي تغول وأساء للشعب السوري بما يزيد بآلاف المرات عن المستعمر الفرنسي…
بكل الاحوال الشعب السوري مازال يتوق لتحقيق الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية في سوريا ولكل الشعب السوري…
-
المصدر :
- ملتقى العروبيين