باتت الحرب على غزة تُثير السخرية من الجيش الإسرائيلي وقادته، مع رعاية الغرب الذي اتّفقت كلمتُه حول السماح باستمرار استعمال السلاح الثقيل حتى القضاء نهائيا على “حماس”. غدا عدم وقف إطلاق النار ضرورة، فالجيش الإسرائيلي لم يُنه “مهمّاته” بعد. هذا الموقف الصَّلب يتضمَّن التشجيع على القتل دونما رحمة، بحجّة الرد على “إرهاب حماس”، ما يُعيد ثقة الإسرائيلييّن بجيشهم الذي “يحقّ له الدفاع عنهم ضدّ الإرهاب الفلسطيني”، خاصة أنه لا تردُّد ولا جدل حول القضاء على الإرهاب، ولو كان بالقتل العشوائي، وهكذا ما زالت بوّابات الجحيم تصبُّ حِمَمها على غزّة وتخلّف آلاف الشهداء أغلبهم من الأطفال.

وإذا كان الشرّ قد استفحل وتمدّد إلى محاولة تهجير أهالي غزة، فلم يعُد مجرمو “إسرائيل”، الثلاثي: نتنياهو وغالانت وغانتس سوى شياطين الثأر، حسب مُعلّق في وسائل التواصل، أكد المتابعون أنه لم يخطئ، عندما وصف وزير الدفاع غالانت بالمُمثّل التافه الذي ارتدى قناع مُنتقم جبّار، بترديده: “لا قيود ولا حدود أمام جنودنا في غزة لاستخدام القوة”. هل هذا ما يتطلّبه تمثيل شخصية بطل لرجل مهزوم، وَغدٍ ورعديد؟ أما سموتريتش وبن غفير وعميحاي، فلا يزيدون عن زعران الشوارع.

يختزل “الإرهاب” العدالة الإنسانية وفقاً لمقياس غربي

لا تصعب معرفة ما الذي يجعل وزير الدفاع، هذا الرجل متجهّم الملامح يتكلّم بقوّة وعزم. الجواب: لم لا؟ ما دام السلاح أميركيّاً، والمليارات أميركيّة، والفيتو أميركيّاً، والضوء الأخضر أميركيّاً، يُضاف إليهم ما شكّلته بريطانيا وألمانيا وفرنسا من عصابة مُلحقة بالأميركي، تُظهر التعاطف مع اليهود والولاء للصهيونية، بدعوى أن ما يفعله الجيش الإسرائيلي، هو الدفاع عن “إسرائيل” الواحة الديمقراطية بقصف المستشفيات والمساجد والكنائس وبيوت الآمنين عن بُعد، وإذا واجهوا الفلسطيني، فداخل دبّابات مُصفَّحة، من سوء حظّهم أنها لا تصمد.

ليس ترديد كلمة “الإرهاب” على أفواه الرؤساء والقادة في “إسرائيل” وسياسيّي الغرب، مجرّد كلمة عابرة أو مفروغ منها، إنها مصطلح سحري، يعني صلاحية إيقاع الموت والدمار بالحدود القصوى دونما مساءلة، وإذا كان بوحشيّة، فمُبرَّرٌ جدّاً، حسب الشائع الدواء من الداء. لن نستغرب، فالإرهاب وتفسيراته عائدة إليهم، هذا مصطلح صُكّ، بعد سقوط الشيوعية، استُخدم لمواجهة الشعوب المطالبة بالحرية وحقوقها السياسية والاقتصادية والثقافية، صُمّم لطمس العدالة الإنسانية، لتصبح العدالة، عدالة الغرب فقط. لذلك كان الدفاع عن جريمة اختلاق “إسرائيل” واستمراريتها نتاج مفهوم عدالة طارئة ومصطنعة على قياس إخفاء جريمة كبرى.

قدّم الإرهاب الذريعة لتمدُّد “إسرائيل”، وعطّل أيّ حلّ للقضية الفلسطينية. وبما أنه لا وجود للإرهاب، بات اختراعُه مطلوباً. إذ إن أي نضال في سبيل التحرُّر أو ضد العنصرية والحقوق المُستلبة والأراضي المسروقة، يُسهّل إيجاد حلّ له، لكن مصطلح الإرهاب سيضع حلّاً قسرياً له طبقاً لعدالة الغرب.

ماذا تكون هذه العدالة بالنسبة للعلاقة مع “إسرائيل”؟ حسب اعتقاد الغرب، إنه أدّى خدمة لها، بتكريس دولة لليهود على حساب شعب ووطن، ثم بالذَّود عنها ومدّها بالمساعدات والسلاح طوال عقود طويلة من المجازر، وتاريخ من الجشع إلى المزيد من قَضْم الأراضي، والتغاضي عن كلّ ما تفعله من قتل وتدمير بلا خطوط حمراء، والتسامح معها، مؤخّراً، حتى في العقاب الجماعي المُمارَس ضدّ المدنيّين ما يُعدُّ جريمة حرب، كانوا خلالها الدرع الواقي لحماقة نتنياهو وتطلّعه الدائم للسلطة، عسى تغفر “إسرائيل”، هل أبرأت ذمّتهم من “الهولوكوست”؟ لا، شايلوك سوف يستثمره دونما انتهاء.

أما الفلسطينيون فمتّهمون بعدم الواقعية، إن الواقعية تُملي عليهم إخلاء منازلهم وأراضيهم والتشرّد في أراضي الله الواسعة، ستّتسع لهمُ صحاري العرب، إنها مفتوحة لهم. هذا منطق الصهيونية، بالتالي تصبح “حماس” منظّمة إرهابية لا حركة تحرُّر وطني.

“واقعية” تُملي على الفلسطينيّين التشرّد بين البلاد

هل تحتاج قضية فلسطين لأكثر من خمسة وسبعين عاماً للبقاء دونما حلّ؟ زمن مضى في المُماطلة والتسويف والاستيلاء على الأراضي واضطهاد الأهالي. لن ينسى الغرب دوره القادم بعد مجازر غزة، سيستعيد دوره الإجرامي، لكن ليس قبل دوره الإنساني، بالسماح لمنظّمات الإغاثة والأطبّاء بتطبيب الجرحى، أما الأموات فدُفنوا، والأهالي هُدمت بيوتهم وباتوا بلا مأوى، أما الفضاء فما زال مفتوحاً للقصف، إن لم يصدع الفلسطينيّون لحلّ قد يكون الموت أهون منه.

إنّ الإرهاب الحقيقي هو ما فعلته “إسرائيل” تحت وصاية الأميركان، وشارك الغرب بصناعته، ثم بِصَمته، فتأييده. ليس الإرهاب اتّهاماً مائعاً، وإلّا لكان من المُمكن أن يستعمله الجميع ضدّ الجميع، ما يسمح بتبادل الاتّهامات، وأن يُصبح هؤلاء الذين يُطالبون بحقّ العيش فوق أرضهم إرهابيّين، ما يُشكّل ذريعة تسمح بقتلهم. هذا إذا كان تفسير الإرهاب على النمط الغربي، ما يُحيله إلى حُجّة تستطيع أيّ دولة أو مجرم أو سفّاك دماء التعلُّل به.

إن ترك مصطلح الإرهاب طافياً من دون تحديد، يسمح للدول الكبرى باستغلاله كما اعتادت، وحمايته بـ”الفيتو” في مجلس الأمن، وتمريره بالأكاذيب، مع أنّ الجميع يعلم أنه إذا كان الإرهاب لم يتوقّف، فلأنَّ الظلم ما زال سارياً في كوكبنا، ولن يتوقّف إلّا بمعالجة أسبابه، واستئصال جذوره التي تمدُّه بالحياة. إنه قصة العدالة، لكنها ليست عدالة الغرب الاستعماري، ولا سياسات بلا ضمير.