بالنسبة للعالم، لم تمثل مجزرة حي التضامن في سوريا البربرية بصورتها القصوى. إنها مجزرة صغيرة بالقياس إلى ما يرتكب اليوم في أوكرانيا، فالعالم يميز حتى في البربريات، بعدما تخلى عن السوريين، اضطر إلى مساندة الأوكرانيين. لكن لا يمكنهم إنكار، أنه على مدار سنوات الثورة والحرب، كانت البربرية اللغة السائدة في الكارثة السورية، للأسف أوكرانيا ما زالت في بداية الطريق، ينتظرها الكثير من حرب جربها الروس في بلدنا.
مجزرة حي التضامن كشفت بالصورة والصوت عن وجوه القتلة، مع آلية القتل التي أبرزت أسلوب الهمجية السافر، كانت أكبر تعبير عن ممارسة روتينية، كان في وحشيتها، ذلك الاعتياد المألوف على القتل
منذ أكثر من عقد، وحتى اليوم، يسرح فوق أراضينا تحت أنظار العالم، البرابرة من ميليشيات الإيرانيين المذهبية والمرتزقة الروس والشبيحة المحليين، وحزب الله، والجيش العقائدي، ليس هناك من يردعهم أو يحرك ساكنا ضدهم، على الرغم من مئات المجازر الصغيرة والكبيرة، غير أن مجزرة حي التضامن كشفت بالصورة والصوت عن وجوه القتلة، مع آلية القتل التي أبرزت أسلوب الهمجية السافر، كانت أكبر تعبير عن ممارسة روتينية، كان في وحشيتها، ذلك الاعتياد المألوف على القتل، الذي هو من لوازم طبائع الدولة الشمولية، التي تمتلك الحق في القتل بلا سبب، فالقتلة لملموا الضحايا من الشوارع وعند الحواجز، عُصبت عيونهم ثم تعرضوا لطلقة في الرأس، نفذت من قبل في حلب بمجزرة نهر قويق، أما المجازر الأخرى فتدل على أن الذين باتوا رماداً، نُفذ القتل فيهم على هذا النحو أو غيره. ليست ضحايا المجازر بالعشرات ولا بالمئات، إنها بالآلاف، لذلك فالمفقودون بالآلاف.
برغم فداحة ما ارتكب، فالمجرم حرّ طليق، يتجوّل في أحياء دمشق، بينما الملايين من السوريين لاجئون أو مهجّرون أو مغيّبون أو في السجون. هذا هو النظام، أما مثقفوه الأشاوس فلم يرفعوا صوتاً ولم يقولوا كلمة حق، كفوا عن إذلال هذا الشعب… لن يقولوها، ما داموا من الشامتين.
برغم فداحة ما ارتكب، فالمجرم حرّ طليق، يتجوّل في أحياء دمشق، بينما الملايين من السوريين لاجئون أو مهجّرون أو مغيّبون أو في السجون. هذا هو النظام
تعيدنا المجازر إلى الأسئلة الأولية لئلا تغيب عنا: هل يحق لنظام مهما كان هذا النظام التحكم بحياة الناس؟ ما الذي يجيز القتل للمجرمين؟ ماذا يكون النظام الذي يسجن ويعذب حتى الموت؟ بأي حق تُمنع الحرية؟
حتى مرسوم العفو الهزيل، الذي لم يُعرف حتى الآن أعداد السجناء المفرج عنهم. جعلوا منه حفلة تعذيب وإهانة للأهالي تحت الجسر في انتظار أولادهم وآبائهم وأزواجهم، بعد سنوات طويلة من السجن قد تبلغ عشر سنين وتزيد، الأولاد الذين اعتقلوا صغارا أصبحوا رجالاً، والآباء كبر أولادهم. لم تكن جريمتهم سوى المشاركة في المظاهرات، أو صادف وجودهم في المكان غير المناسب. أما الذين حملوا السلاح، أو اشتبه بحملهم السلاح فقد أعدموا، عدا الذين ماتوا تحت التعذيب، أو بسبب الظروف السيئة في السجن، فتفاقمُ الأمراض من دون علاج، قد يؤدي إلى تقيح الجروح والموت، كذلك سوء التغذية، إضافة إلى الأمراض النفسية الناجمة عن اعتقال غاشم، وتحقيق رهيب اضطرهم إلى التوقيع عن جرائم لم يرتكبوها. ففي سوريا، ليس عمل الأجهزة الأمنية، سوى تلفيق الاتهامات وممارسة التعذيب والقتل، هذه الصلاحية يوفرها نظام يسلب الناس أي حق، السوريون شعب بلا حقوق.
حتى عملية الخروج من السجن، كانت عملية تنكيل بالمفرج عنهم بتعريضهم إلى محاضرة في الوطنية الكاذبة، مع مكرمة صفيقة من الذين اختطفوهم وعذبوهم وسجونهم سنوات طويلة. الذين ألقوا عليهم هذا الدرس عبيد، وليسوا أحرارا. لا يعرفون أن الحرية -من فرط ما هي ثمينة-، حق مفروغ منه. الحرية في أن تعيش بكرامة، وألا تهان ولا تذل، ولا تُقتل ولا تُنهب، ولا أن تعتذر من سيد الوطن، لأن المواطن هو السيد.
أليست مأساة، أننا لا نستطيع أن ننعم بهذه الحرية إلا خارج الوطن؟
انتشر خبر استشهاد شيرين أبو عاقلة برصاص قناص إسرائيلي، ولقد بكيت كما بكي مئات الآلاف، وربما الملايين، فقد رافقتنا نحو خمسة وعشرين عاما
خلال كتابة هذا المقال، انتشر خبر استشهاد شيرين أبو عاقلة برصاص قناص إسرائيلي، ولقد بكيت كما بكي مئات الآلاف، وربما الملايين، فقد رافقتنا نحو خمسة وعشرين عاما، حتى أصبحت واحدة من أفراد عائلتنا الكبيرة في الوطن العربي، كانت بالنسبة للكثيرين، الأم أو الأخت أو الابنة. وكانت شهيدة، أسوة بشهيداتنا السوريات، وإن لم تصح المقارنة، كان مقتل شيرين نظيفاً، فالقاتل عدونا الإسرائيلي، بينما شهيداتنا قتلهم سوريون من الجيش العقائدي، أو من الشبيحة الأنذال، أو رجال المخابرات. ماتت شهيداتنا بعد تعذيب وإذلال واغتصاب، ثم ذُبحن وأحرقن… لم يعدن سوى مفقودات. هناك من سينتظر عودتهن، زوج وأب، أشقاء، وأبناء، وربما أحفاد. سينتظرونهن العمر كله.
في عام ٢٠١٦ كتبت شيرين أبو عاقلة على صفحتها رسالة تحذير إلى السوريين: “لا الجثث المتناثرة في الشوارع ولا دموع وصرخات الأطفال ولا أنّات النساء والرجال، ولا كل الجرائم المرتكبة بحقكم ستحرك ضمير العالم. ألم تأخذوا العبرة ممن سبقكم؟ فمنذ ما يقارب السبعين عاما ونحن نستصرخ العالم، بينما الاحتلال ينهش جسدنا يلتهمنا ويقضمنا لقمة لقمة. قد ينصفكم زمن غير هذا الزمن، لعل فيه ذرة من ضمير”.
شيرين، نحن أيضاً تحت الاحتلال.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا