يطرحُ الأدب تساؤلاتٍ صعبة، لا تخلو من اتهامات، تبدو غير مفهومة، حول انحياز الأدباء للأنظمة السياسية، وكأنّها مشكلة أدبيّة، مع أنّها سياسيّة، لكنّ الخلط بينهما كان دائماً وارداً. فلا أدب من دون سياسة، كما أنَّ الأدب عموماً يعبّر عن مواقف سياسية، أحياناً واضحة، وأحياناً أخرى لا تخفى، يمكن تكهُنها أو حتى تلمُّسها.

في القرن الماضي، لوحظ أنَّ السياسة منحت الأدب غطاءً فعّالاً للوصول للناس. واشتهر كثيرٌ من الأدباء بسبب مواقفهم السياسية، عبّرت نتاجاتهم عنها، طالما أنّها استمدّت منها، ما زال بعضهم مدينين حتى الآن بمكانتهم إليها، وإن تنكّروا لما ناضلوا من أجله، خاصّة الأدباء الذين عُرف عنهم التزامهم بالاشتراكية، اكتسبوا من حمل راياتها سُمعة تقدّمية مدوّية.

يقدّم القرن الماضي أكثر من مثال، سواء كانوا شعراء أو روائيين وفلاسفة على انحيازهم للأنظمة الحديدية، ولو أنَّ أعذارهم لا تصمد إزاء ما أدّت إليه هذه الأنظمة من آلام وكوارث على مدى عقود، تجاوزت نصف قرن كالشيوعية. يمكن التذرّع بأنّه كان للشيوعية بالذات جاذبيتها في العدالة والمساواة بين البشر، ولو كان بالحديد والنار، وأوقع الأدب في فخاخ الترويج لها، ما شكّل لهذه السياسات الاستبدادية انفتاحاً على العالم، بمساهمة أدباء وفنانين مشهورين، أسبغوا عليها أبعاداً إنسانية، وكأنّها مجرد نظريات، من دون الالتفات إلى الواقع، وأحياناً بتجاهله، فمنحها جواز المرور إلى العالَم الحر، ومنه إلى شعوب العالم الثالث.

وسنجد في الأديب الفرنسي لويس أراغون، مثالاً مُثيراً للتساؤل. فهذا الروائي والشاعر السريالي اكتشفَ في شيوعية ستالين عام 1935 ما تختزنه من طموحات لعلمٍ عظيم يقوم على تربية البشر، وصناعة إنسان جديد يواكب عالَماً شيوعياً مثالياً بلا طبقات ولا استغلال. إلى حدّ أنّه يحقّ له التخلّص من مجموعات كبيرة من البشر، لا تقلّ أعدادها عن ملايين، إذا شكّلوا عائقاً، أو تبيّن أنه ليس بمقدورهم مجاراة عالَم على وشك الولادة من القديم. وكأنَّ القضاء عليهم تُمليه عملية تربوية بحتة، حتّى أنها، ويا للسخرية، كأنّها من اختصاص وزارة التربية، دائرة التقدّم، إذ صياغة إنسان الحداثة تتطلّب ضحايا وتضحيات لا بدّ منها، ما يحقق سعادة الإنسان. مع العلم أنَّ ما عُرف عن لويس أراغون أنّه شاعر رقيق، طالما احتفى بعلاقة الحبّ الذي جمعته مع زوجته إلزا حبيبته، التي كرّس لها ديوانه الشعري المشهور “عيون إلزا”.

أمّا الشاعر الفرنسي بول إيلوار، فقد كان صاحب أشهر قصيدة في العالم تغنّت بالحرية: “أكتبُ اسمكِ/ فوق دفاتري المدرسية/ فوقَ طاولتي والأشجار/ فوق الرمل فوق الثلج/ فوق كل الصفحات المقروءة/ فوق كلّ الصفحات البيضاء/ الحجر والدم/ الورق والرماد. أكتبُ اسمك/ فوق الصور الذهبية/ فوق أسلحة المحاربين/ فوق تيجان الملوك/ أكتبُ اسمك/ فوق الدغل والصحراء/ فوق الأعشاش/ فوق صدى طفولتي/ أكتب اسمك”. بيد أنَّ التغنّي بالحرية شيء والواقع شيءٌ آخر تماماً، لكن إلى ماذا يشير الواقع؟

لا يمكن أن تصمد أعذار الكتّاب الذين انحازوا الاستبداد

إنَّ الحرية على تضاد مع الاستبداد. إيلوار نفسه صاحب هذه القصيدة، مدح الطاغية في عام 1949: “يبدّد ستالين الشقاء، والثقة هي دماغه النيّر”، بينما كان عقل ستالين النيّر قد أنجز كلَّ ما يمكن لطاغية أن يحقّقه طوال ربع قرن من قمع ومجاعات لشعبه، وتصفيات لمعارضيه بمحاكمات وإعدامات ومنافي، استجابَ لها قانون الطاغية الأوّحد، الذي منحه حقّ التصرّف المُطلق بحياة البشر.

ليس أراغون وإيلوار فقط، هناك رعيلٌ من الأدباء الأوروبيين من أنصار شيوعية ستالين من المناصرين للحريات، سواء كانوا من اليسار واليمين، عبّروا عن مواقفهم المؤيدة لروسيا كُرهاً بالفردانية وتعويلاً على غايات إنسانية. منهم الكاتب الفرنسي أندريه جيد. لن يطول الوقت بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ أغلب الكتّاب، وعلى رأسهم أندرية جيد نفسه ومعه الروائي الهنغاري أرثر كوستلر، والإيطالي إينياتسيو سيلونه، والأميركي ريتشارد رايت، لحق بهم الفرنسيان سارتر وبوفوار وغيرهم، بالانفضاض عن أكذوبة العالم الجديد في صناعة الاستبداد.

قد يُعذر أراغون وإيلوار وغيرهم. كان الستار الحديدي مانعاً يُعتد به في حجب الحقائق من التسرّب. أمّا الذين ذهبوا واطلعوا على الجنة الاشتراكية، فقد عادوا وتنصّلوا من رسُل الشيوعية الذين خانوها. كان لهؤلاء الأدباء نضالهم المشهود ضد النازية، ومنهم من كان في المقاومة السرية، ما الذي جعلهم يتجاهلون الستالينية التي لم تقل عنها، وإذا كانت النازية لم تغفل بجرائمها العالم، لكن الستالينية قتلت شعبها.

لماذا اعتاد الطغاة قتل شعوبهم؟ لأنّهم يعتبرون الوطن وما فوقه وتحته من أملاكهم. وما الشعب إلّا عبيد، دهماء، عامة، قطيع، رعاع… يُطلقهم ساعة يشاء في مسيرات تدعو له. هؤلاء فيما لو بدرَ منهم احتجاجٌ أو انتفاضةٌ وربّما ثورة، فالمجازر الجماعية بانتظارهم، ولن تكون أكثر من عملية تنظيف لغير المنسجمين في دولة لن تكون مفيدة إلّا بالقضاء عليهم، حسب اجتهادات طاغية محلي.

ليست الثقافة إلّا لتزيل هذه الأوهام. لكن الأسوأ الذي يحدث، ابتكار الذرائع لتبرئة الطغيان، أو مسايرته بسرديات تُغفل مقتل مئات الآلاف من البشر، وتعمّد اتهام ثورة الحرية بالطائفية والإرهاب.