يظهر الأديب أو الفيلسوف في سيرته المتداولة، كأنه يحوز ما يفتقد إليه الناسُ العاديّون، ويتّصف بما لا يتّصف به غيره من الخصال الحسنة، عدا عن تمتُّعه بالحكمة والذكاء، وربما الشجاعة والتضحية… الخلاصة هي الكثير من الخصال التي تُبالِغ بها الصحافة، ليس عن معرفة، وإنما عن قلّة معرفة. ففي النظر إليهم كبشر عاديّين، يُفقد الصحافة تميُّزها في السعي إلى كَسْبِ قصب السبق، في تعريف الناس بما يجهلونه، وتزويدهم بمعلومات يصعُب الاطّلاع عليها، لكن يُشترط أن تكون جذّابة.

هذا عندما كانت حياة المثقّفين نهباً لصحافة المنوّعات، لكنّ الصحافة الإلكترونية، في مواقع التواصل الاجتماعي، أتاحت لعشرات من الذين يزعمون الاطّلاع على الخفايا، وربما ما يزيد عن الآلاف الإدلاء بآرائهم أو معلوماتهم عن يقين، ودونما تمحيص، وتجريب قدراتهم على استعراض ما لديهم من أسرار دونما رقيب. لم ينكشف الكاتب بقدر ما ازداد غموضاً من فرط ما دار حوله من متناقضات.

هل من وسيلة لتنظيم هذا السَّيل من الكشوفات، التي لا تزيد عن فضائح تحفل بالخطأ والصواب معاً؟ يبدو أنّ الحرّية بلا حدود، بخاصة إذا كانت مبذولة للملايين دونما تخصيص. هل نمنع الناس من الكتابة؟ طبعاً لا. الأمر يعود إلى القارئ أي المتلقّي، وأن تكون لديه حنكة التمييز، وبراعة التقصّي في فضاء مفتوح، مع هذا لا يتأتّى لمخلوق، أن يقضي يومه وليلَه في البحث عن مصدر المعلومة، ومدى حظّها من المصداقية، وصعوبة التيقّن منها، وعدم سهولة الوصول إلى مصادر موثوقة، عدا عن عمليات التعتيم التي تتناول أموراً خاصة يصعب الفصل في زيفها أو حقيقتها.

تُحاول كتب السيرة الذاتية الدخول إلى عالَم الأدباء والمفكّرين، والانغماس في الحياة التي عاشوها، وما تأثّروا فيه، آمالهم وطموحاتهم وخساراتهم وادّعاءاتهم، وإذا كانوا لم يتجنّبوا سقطاتهم، فليس للتشهير بهم، بل للإحاطة بشخصياتهم، ما يفيد في دراسة أعمالهم، وذلك بالرجوع إلى سيرتهم الشخصية وحياتهم العائلية، والبحث في مراسلاتهم ويومياتهم، وشهادات معاصريهم، وتعريضها للأضواء إلى حدّ تعريتهم، وأحياناً إخضاعهم للتحليل النفسي، بخاصة مع دأب الكثير من السِّيَر التركيز على حياتهم الجنسية، وكانت من قبل تُوصَف بـ”العاطفية”، لكن تحت تأثير عصر تحرَّر من الحَياء البرجوازي، أصبح الجنس مادّة تعتبر إحدى سمات الشخصية.

ما يُعرّض المثقفين للمساءلة هو تغيُّر القِيم مستقبلاً

لا يعني هذا، أنّنا في زمن آخر، دائماً كانت هناك خُروقات في عصور كان الأدباء والمفكّرون متصالحِين مع أنفسهم، أقرّوا بما ارتكبوه من خطايا، كما في “اعترافات” روسو المُضطربة، وكان تخلّيه عن أطفاله لدُور اللقطاء. وكان أيضاً في الدفاع عن علاقة سارتر وسيمون دي بوفوار التي بدت علاقة مُتحرِّرة من عقد الزواج، استمرّت طوال حياتيهما، وكانت في نظر الكثيرين علاقةً في منتهى الرومانسية والجمال، وكأنها من صناعة الفلسفة الوجودية، بينما لم تستمرّ إلّا لأنها كانت علاقة حبّ وتفاهُم، ثم أصبحت زمالةً ورِفقة، لم تمنع سارتر من إقامة علاقات جنسية مع فتيات يصغرنها سناً، كما لم تجد دي بوفوار ضَيراً في استدراج طالباتها إلى علاقات جنسية أيضاً.

وما دُعي بالخيانات المُتبادلة، يصحّ نفيها، إذ لم يربط بينهما زواج ولا قيود من حبّ، بالتالي فلا تملُّك ولا غيرة، مجرّد علاقة عاطفية تحوّلت إلى صداقة عقلانية، كفَلت لكلٍّ منهما ممارسة حرّيته كما يرغب. كان من المُمكن إدانتهما لو كانا من دُعاة الأخلاق التي تتّصل بحماية الأُسرة أو الزواج، لكنهما لم يكونا كذلك.

يُلاحظ أيضاً في تعارُض الطبّ مع أخلاقيات المهنة، فقد كان فرويد يُشدّد على عدم إقامة علاقة حميمة بين الطبيب ومرضاه، وذلك من ضرورات العلاج في التحليل النفسي، هذا التحذير لم يمنع من إقامة علاقة حميمة، بين يونغ وشابّة مريضة، للسبب الممنوع ذاته، كان بِنِيّة علاجها حسب زعمه. كذلك أوتو غروس اتُّهم بالانحلال الأخلاقي لقيامه بالعديد من العلاقات المحظورة، حتى إنّ فرويد كان مشبوهاً أيضاً في التحايُل على أخلاقيات المهنة. وما يُثير الاستغراب، السقطات نفسها من أساتذة جامعيّين في فلسفة الأخلاق، يدعون إلى الالتزام بها، ولا يتقيّدون بها، ثبُت تورّطُهم مع طالباتهم في قضايا تحرُّش.

كان دليل الإثبات رسائل إلكترونية ومحاولات اعتداء، والتهديد بمنع المساعدة الجامعية. كذلك ما راج عن كاتب عالمي بنى شهرتَه على العِداء للدولة الشمولية، ارتكب في الماضي وشايةً بصديق للمخابرات. ليست هناك حياة سرّية للأشخاص العاديّين ليس لدى الأدباء مثلها، لا تغفر للطرفين وأمثالهما، فلا تمييز ولا فوارق. فالأدباء كغيرهم يُعانون من الأمراض نفسها ويرتكبون الأخطاء، وربما الجرائم نفسها… ولا تبدو غريبة ومُستهجنة إلّا لأنّ هالةً من التقييم الأخلاقي مُبالغ بها، تُحيلهم إلى أُناس حمَلة أفكار إنسانية وقِيم عظيمة.

إذا أردنا الإحاطة بموضوعنا، فالسؤال، هل هناك حياة سرّية للثقافة؟ نعم، إذ إنّ لكلّ زمان معاييره، فما يُعرِّض المثقفين للمساءلة إنما هو تعريضٌ للثقافة للتساؤل من زمان لآخر، ولا يعفيها منه المستقبل، وقد يجعل الجواب أقلّ وطأة مع التغيُّر في القِيَم، سواء كان نحو التشدُّد أو التساهُل، إذ إنّ الجواب يقع على عاتق الزمن. مع أنّ المثقّفين في زمانهم هُم الأقدر على التخفّي، فهُم في زمن النضال مناضلون، وفي زمن التقدّم تقدُّميون، وفي زمن الإباحية لا بأس أن يكونوا إباحيّين.

الثقافة ليست كما تُصدَّر لنا، هناك حياة سرّية، لا تبقى طويلاً في الخفاء.