هل في بلادنا وحدها، ما زال المثقفّون يُصنِّفون بعضَهم بعضاً إلى يساريِّين ويَمينيِّين، وإلى تقدميِّين ورجعيِّين؟ أوصافٌ نعتقدُ أنها ما زالت تُمارِس أدوارها في العالَم، وإنْ كانت في تراجُع حثيث. غير أنها أوصافٌ لها سحرُها القديم، كان المثقّفون في القرن الماضي يعتبرون أنفسهم، بشكل مفروغ منه، أنّهم يساريّون تقدُّميون، فيَجمعون المجد من أطرافه. ينسحب هذا الوصف على مواقفهم مهما كانت، كماركة مسجّلة، تمنح صاحبها التقدير وحق الاتّهام، وحتّى حقّ تخوين الآخرين الذين يختلفون معه. كان هذا وارداً، ولم يكُن الأقرب إلى الحقيقة، عندما كانت الحدود واضحة بين اليسار واليمين.
اليوم لا نقصد أنّ اليساريّ ليس يسارياً، أو اليَمِينيّ ليس يمينياً، وإنما كلٌّ منهما لم يعُد يمثِّل ما يزعمُه أو المعروف عنه. مع العِلم أنّ التصنيف لم يُصبْهُ العطَبُ حسب السائد والتوجّهات، وربما الأقوال لا الأفعال، وإنّما أصاب المُصنَّفين تحت عنوانه. ما دام أصبح لليساريّ، كما لليمينيّ، نزعةُ استعارة شيءٍ ما من الآخر، حتّى بات يصعب التمييز بينهما. فاليساري وهو المُلاحَظ إلى حدّ مُخجِلٍ، قد يتّخذ مواقف مع الدكتاتورية ضدَّ الحرّيات. واليَمينيّ لم يعد مُحافظاً، كما لا يوفِّر الحرّيات من الانتقاد، بدعوى أنها مُنفلتة إلى حدٍّ جنوني.
على كلِّ حال، إذا كان هناك وجودٌ لليمين واليسار فقد اختلطت الأمور بينهما، خاصة بعدما أضاف كلٌّ منهما قدراً من الليبرالية إلى رُؤيته للعالَم، لا تخلو من نزعة براغماتية انتهازية، فأصبح هناك مُحافظون ليبراليون، مثلما هناك يساريّون ليبراليون، وإذا أصابتهم العنصرية، أضافوا إلى ادّعاءاتهم قدراً لا يُستغنَى عنه من الشعبوية، فالعمل السياسي يبرّرها.
يساريّة “قويمة” تتلخّص بمساندة أنظمة تقمع شعوبها
أمّا وأنّ العصر ليبراليّ، فالجميع بات يؤمن بالحرّية، ربّما المُطلقة، في حرّية التعبير والإيمان بأنه لا قيام لمجتمع من دون حرِّيات. وقد تكون حرِّيات بلا رقابة، وحرّيات بلا حدود. مع السَّعي إلى الالتحاق بالمثلِيّة والجندر، يُسوِّغها أنها آخِر صيحة معتمَدة أخذت تشقُّ طريقها في العالَم، تساندُها القوانين والحكومات، والطريق الذهبي إلى السياسة، كما أنها الدَّرب المثالي إلى الهجرة.
مع هذا، ما زال هناك مَن يعتقد بأنّه يُحافظ على يساريّته نقيّة، ممّا في داخلها من انحرافات وتحريفات، بالتالي ما زالت الإمبريالية عدوَّه الأوّل، وبالضبط أميركا. ومهما فعل الأميركان فالهدف استعماري، أي أنّ هذه الرأسمالية المُنتصِرة، ما زالت تحمل عناصر فنائها، بينما الاشتراكية المهزومة ما زالت تحمل الوعدَ بإنقاذ العالَم. ربّما كان على حقّ، ليس حسب وجهة نظره فقط، وإنما من وجهة نظر غالبية شعوب العالَم. بيد أنّ يساريّته “القويمة” تبلغُ به حدّ الوقوف إلى جانب أيّ نظام يزعم أنّه ضدّ الأميركان، مع أنّ هذا النظام يقتل المُعارضين أمثاله، ويُلاحقهم ويمنعهم من ممارسة حقوقهم، وإذا احتجّ الشعب على الظُّلم، قُمِع بالدبّابات. لكنّ هذا اليسار لا يعبأ، يكتفي بما يُعلنه النظام المُجرم، ما دام الادّعاء السحري ضدّ أميركا. بل وقد يشدُّ الرِّحال الى أراضي النظام، كي يشُدّ من أزره في محنته ضدَّ شعبه “العميل”. المُثير للأسى والسخرية معاً، أنّ أكثر ما يُلاحَظ هذ،، لدى المثقّفين والأدباء العرب المُرابطين في اتحادات الكُتّاب، الأشدّ يسارية من مُلهميهم: الرّفاق الغربيين، فيؤلّفون الأشعار ويكتبون المقالات في مديح صمود الدولة المقاوِمة الوحي
دة في المنطقة، ولو أنّ هذا النظام قتل الآلاف، ليس بالكيماوي فقط، بل بالتجويع أيضاً. فهو لا يرحم الشعب الذي يعيش على أقلّ من الكفاف، لمجرّد أنه مشبوه إمبريالياً، وإلّا لِمَ تُرسل له أميركا المساعدات، حتى هذه يسرقها منه.
هذا اليسار يهرب من مواجهة واقع يغصّ بمشاكلَ تتفاقم، ولن تجد حلّاً لها بالسجون والمعتقلات، أو بتحميل أسبابها لقوّة شريرة، جرى الاتفاق على وصفها بدولة الشرّ الأعظم، باسم أيديولوجية تزعم تمسُّكها بالمبادئ. إنْ لم تتعامل المبادئ مع الواقع، فالمبادئ ليس لها عينَان تُبصر بهما، مَن يبصر هُم الذين يحملونها، فماذا لو كانوا عمياناً؟
لن نتطرّق إلى التصنيفات الحديثة، المُبتدَعة والعابرة، هي صناعة محلّية، من الموالاة والمعارضة، إلى الإسلامي والطائفي والإرهابي، يستفيد منها المثقّفون الخونة، من بقايا يسار مأفون ومريض. لكنْ عندما تسقط هكذا أنظمة، سرعان ما ستُصبح من الماضي التعيس.
-
المصدر :
- العربي الجديد