يبدو أن العرب أكثر من يعرفون بوتين، لأنّ أمثاله أوقعوهم في حبائلهم عشرات السنين، وهذا الذي جاء بعدهم يحاول ثانية إلحاقهم به. بماذا يختلف بوتين عنهم، ليس كثيراً، وإن بدا أخف وطأة، لكنه ما زال في أول الطريق، ينوي اختصار طريق طويل، لا يستعيد فيه البلشفية بل القيصرية، مع الوسائل إياها؛ السجون والاعتقالات.

أضاف إليها، ارتكاب وفيات غامضة للمعارضين، الأمر الجيد حتى الآن، لا وجود لمفوضي الشعب، ولا سيبيريا، أو محاكمات التخوين، ولا أيديولوجيا الصراع الطبقي، الواضح انقلابه على الشيوعية مع أنه خرج من معطفها، وكان ربيبها.

ما يميزه عن الشيوعيين، السيطرة على مافيا ازدهرت في ظله، تمارس عملها سراً، وإن كانت مفضوحة، ثم جهراً بعدما أصبحت الوجه الآخر للنظام الجديد. بذلك يجاري الغرب حكومات ديمقراطية إلى جانب مافيات سرية وعلنية، من هذا الجانب ضارعتها الديمقراطية الروسية بالمافيا، وإن كانت في الغرب أكثر حياء، تتسلل إلى أجهزة الدولة، تجد موطئ قدم لدى رجال السياسة والمال والأعمال، إنها مجرد شراكات، تعود على الجميع بالمنفعة.

إذا كان بوتين قد استطاع تحقيق انتصارات ملموسة على المعارضة في بلده، لكنه قصّر عن شريكه السوري، لم يعتقل سوى عدة مئات من المتظاهرين ضد الحرب الأوكرانية، وما زال للاحتجاجات صوت قوي، مع أن بوتين ظفر بتأييد شعبي كاسح لسياساته. بينما في سوريا هناك نحو 100 ألف بين سجين ومفقود ومغيب قسري ومختطف، منذ أكثر من عشر سنوات بينهم أولاد أصبحوا رجالاً، كذلك أطفال، نعم أطفال، أصبحوا أولاداً، لا يدري أحد لماذا هم معتقلون، ما الذي فعلوه؟ هل بجريرة آبائهم وأمهاتهم؟ وما زال هناك من يموت تحت التعذيب حتى الآن، وهناك من يعدم على الرغم من المصالحات.

لننتبه، كلا الدكتاتورين الروسي والسوري، حازا على جماهيرية واسعة، فاستطلاعات الرأي الروسية منحت بوتين الثقة التامة بطموحاته التي لم تحصل عليها دولة العمال والفلاحين في عز الانتصار على الامبريالية العالمية، ومثله شريكه الصغير السوري، نتائج الانتخابات الدائمة لا تنزل عن تلك الأرقام المثالية المعتمدة التي تدلل على موالاة الشعب المطلقة للرئيس الشاب.

مع هذا لا يقيم الغرب وزناً لها، لا يصدقون استطلاعات الرأي الروسية مهما كانت نزاهتها، لأنها أجريت في ظل نظام دكتاتوري، بحجة أن المستطلعين خائفون ومذعورون، يستحيل أن يجيبوا عن الأسئلة بصدق. كذلك الانتخابات السورية، من لا يعرف أنها ملفقة، والصناديق جاهزة قبل أيام، ولا تلك التي تملأ على عجل في يوم الانتخاب، النظام السوري، أوقح نظام يعمل بدأب على تحويل الانتخابات إلى مهزلة.

بالعودة إلى بوتين، إن كان هناك من يشكك بدكتاتوريته، لن ينتظر، لقد أصبح دكتاتوراً نموذجياً، طبعاً لم يأخذ دروساً من دكتاتورنا المحلي، كما يزعم شبيحة مهرجون، لدى بوتين تشكيلة من الطغاة أسلافه الشيوعيين، أبلوا بلاء مريراً في الدكتاتورية، سيمشي على نهجهم.

ثم إن مؤهلات بوتين تفوق نظيره السوري، فهو لم يرث الحكم، لقد حصل عليه بعرق جبينه، تدرج في المناصب الحكومية في الاتحاد السوفييتي السابق، في قلب العالم السري للاستخبارات الروسية، واستطاع أن يصنع شخصيته من جديد أكثر من مرة قبل وصوله إلى السلطة، ونضجت خلال السنوات الأولى من رئاسته، ولم يكن سهلاً، فافتقاده إلى الكاريزما كان جلياً، ونالت منه الكثير من الملاحظات السلبية عن طريقته المملة في الحديث، وسلوكه المتعثر ولغة جسده الدالة على عدم ثقته بنفسه. كما لم يكن لديه أي شيء مميز في ملابسه؛ بدلة زرقاء اللون، ربطة عنق زرقاء منقطة، ساعة يد بسيطة للغاية، أزرار أكمام معدنية، ولا سلسلة ذهبية حول المعصم.

كان ضابط استخبارات كلاسيكياً، بيروقراطياً صغيراً متواضعاً. تلك كانت ملاحظات المراقبين الغربيين، ما أعطاه علامات متدنية. لم يتوقعوا له مستقبلاً باهراً، مجرّد رئيس في الوقت المستقطع الضائع، ريثما يحل محله يليتسين آخر غير مدمن على الكحول، أو غورباتشوف آخر أقوى عزيمة. لكن باءت تقديراتهم بالفشل

كان ضابط استخبارات كلاسيكياً، بيروقراطياً صغيراً متواضعاً. تلك كانت ملاحظات المراقبين الغربيين، ما أعطاه علامات متدنية. لم يتوقعوا له مستقبلاً باهراً، مجرّد رئيس في الوقت المستقطع الضائع، ريثما يحل محله يليتسين آخر غير مدمن على الكحول، أو غورباتشوف آخر أقوى عزيمة. لكن باءت تقديراتهم بالفشل. هذا الوقت المستقطع، لم يضع عبثاً، كان بوتين قد تأهل، وبالضبط صنع نفسه بنفسه، ولم يشرف على تصنيعه مستشارو القصر الجمهوري، ولا الضباط الكبار في الجيش، أو الأجهزة الأمنية، ولا بركات الأب الخالد. وإذا كان بوتين لم يحظ بهذه الامتيازات، وغدا دكتاتور روسيا، فالسياسة في بلد كان قوة عظمى، ولو انهار على حين غرة… لا تسمح بالفراغ.

ليس سراً كيف أقنع بوتين الغرب بأنه الرجل الحقيقي المؤهل تاريخياً لقيادة روسيا، رغم عدم اقتناعهم بقدراته على إقامة نظام ديمقراطي فما البال بالشمولي، سيقنعهم بالأسلوب الأوحد، ذلك لأنه ليس هناك غيره ليكون الأوحد، وذلك بإظهار منتهى الإجرام وعدم الرحمة في القضاء على التمرد الشيشاني، وتدمير العاصمة غروزني وقتل المدنيين في الشيشان، والتعامل الوحشي مع حصار مدرسة بيسلان، وتسميم المعارضين، وفي سوريا، لم يقصر في قصف حلب، وقدم مثالاً تأديبيا مروعاً، كان في الإبادة، هذا من الجو، بينما على الأرض كان مرتزقة فاغنر يقتلون ويذبحون ويمثلون بالضحايا.

مؤخراً، في الحرب الأوكرانية، تتحدث الأخبار يومياً عن الخراب الذي لا يقارن إلا بالخراب السوري، تعذيب الأوكرانيين وقتلهم، واغتصاب النساء، وجثث ملقاة في الشوارع، وأطفال جرحى فقدوا أذرعهم وسيقانهم، وما زال هناك المزيد، فالحرب لم تنته بعد.

أعطى الغرب الذي يؤخذ بالمظاهر، بوتين تقييماً منخفضاً، بينما منح الأسد تقييماً عالياً، وكان في حكمه على بوتين هو أنه دكتاتور مجنون لا يرجى صلاحه، بينما الدكتاتور السوري، لم يطلب منه سوى تغيير سلوكه، وما زال الغرب منذ سنوات على هذا المنوال

أعطى الغرب الذي يؤخذ بالمظاهر، بوتين تقييماً منخفضاً، بينما منح الأسد تقييماً عالياً، وكان في حكمه على بوتين هو أنه دكتاتور مجنون لا يرجى صلاحه، بينما الدكتاتور السوري، لم يطلب منه سوى تغيير سلوكه، وما زال الغرب منذ سنوات على هذا المنوال، يحثه بينما لا يبالي بهم. الغرب معذور، لا يعرف شيئاً عن الحرب التي شنها على شعبه، ولا عن المعتقلين أو اللاجئين الذي تجاوزوا ستة ملايين. لو أن هناك من يستقبل السوريين في بلاد العالم، لما بقي حتى هؤلاء الذين ينبحون في الشوارع، ويطلقون الرصاص في الفضاء تعبيراً عن موالاتهم المطلقة.

نقول، سمعة الغرب تخدعنا، يروج عن نفسه بأنه يدبر المؤامرات لإقصاء الدكتاتوريين عن الحكم، بينما هو يدبر المؤامرات لإبقائهم في الحكم في حال تهددت أنظمة الاستبداد.

أما عن بوتين الذي كان حديثنا بشأنه، فلا يضيف جديداً… إنه دكتاتور آخر.