لا تخفي محاولات التطبيع العربية مع الأسد، أنها كانت لاستئناسه، من دون اشتراطات واضحة، فُهمت على أن الأسد تسبب بمشاكل لجيرانه. كان التجسيد الحي لها تصنيع الكبتاجون وتصديره مؤخراً، بينما هناك مشاكل أخرى تزيد عنها. هذه المشاكل لا يمكن حلها إلا بالتفاهم معه.

وهي تعني سورية بالدرجة الأولى، فالضرورة تبيح العمل على عدم تقسيمها، والحد من تزايد النفوذ الإيراني والروسي والتركي، والعمل أيضاً على تحسين الأوضاع الداخلية. وهو ما تحاول البلدان العربية والنظام في سوريا عدم التصريح به، بإعطائه صيغة أخرى من نوع التضامن العربي، مع توقعات مستقبلية طيبة، تبلغ ذروتها في تصفير مشاكل المنطقة، من دافع الاعتقاد بأن المنطقة برمتها صارت تعيش على وقعها، وقد تصبح مع الوقت لا غنى عنها، لذلك الحد منها يخلق بيئة صالحة لحلحلة مشاكل تراكمت، لكن ليس قبل تأهيل النظام السوري في الجامعة العربية.

في الماضي القريب للمنطقة، كان هناك بلدان تقدمية وبلدان رجعية. أما اليوم فبلاد مزدهرة اقتصادياً، وبلدان مزدهرة دكتاتورياً، وكلاهما كبداية يحاولان موقفاً وسطاً لا يؤذي أحدهما الآخر. ولقد كان التعاون بينهما في الربيع العربي جيداً حتى من دون تنسيق. فالتهديد كان بتصدير الثورات إلى المنطقة، أو على الأقل جعل بلدانها تعاني من عدم الاستقرار. فبادر الخليج إلى وضع يده على العناصر المسلحة، والتحكم فيهم إلى حد القدرة على منعهم من إسقاط النظام، ولم تعن لهم هذه الخطوة التي كانت تنافسية بين بلدانهم سوى عدم استيراد الفوضى إلى بلدانهم، لذلك كان الترحيب بالتدخل الروسي لوأد الثورة في الداخل، على عكس التدخل الإيراني، صانع ثورات للتصدير.

المبادرة الأخيرة تمت بموافقة أمريكا على كل خطوة، إن لم يكن بإيحاء منها بالكامل، وكانت بضبط الخطوات نحو تهدئة الأوضاع، مع أنهم جميعاً كانوا على اطلاع أن هذا النظام الدكتاتوري، يتفوق على أعتى الأنظمة الدكتاتورية في العالم، لا يتورع عن ابتكار مجازر بالجملة، باستخدام الأسلحة الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدفعيه، وخفيفة كالهواء المسمم بالكيماوي.

كانت النصائح الغربية للنظام عبر القنوات السرية: إذا اردتم القضاء على الثورة، فلا بأس، لكن عجلوا، الوضع الدولي غير ملائم. بينما وجد النظام أن الوضع الدولي ملائم، فكانت فرصة للقضاء على ما دعي بالحواضن الأهلية للإرهاب، كانوا من الفقراء الذين يشكلون عبئاً عليه، ومؤهلون للانتفاض ضده. كانت حاجته إلى الوقت لا ليقضي على الثورة فقط، بل ليتخلص من الفائض السكاني المزعج، فالمطلوب كان الموالاة، والأفضل الموالاة العمياء، ما أدى إلى انتشار الميليشيات والنهب، وفتح الأبواب بتخطيط من إيران الملالي لاستقدام ميليشيات لن يكون لها من عمل سوى الاستيطان. أما المهمة فهي الموالاة الدائمة.

لم يكن اعتباطاً اللهجة المتشددة التي تكلم بها الوزير في نظام الأسد ، في ما يدور حول ما دعي باتفاق الخطوة بخطوة أو القرار المعروف 2254 وغيره.

ما أظهر أن العرب أخطؤوا بفهم ما أقدموا عليه، بادر الوزير لإفهامهم إياه على وجهه الصحيح لئلا يشط بهم الخيال، وينسوا أن النظام ليس وحيداً، فقد جاء إلى القمة مدججاً بدولتين تشاطرانه هذا المفهوم، عدا عن الصمت الأمريكي غير المشبوه، ولو كان بالتواطؤ مع دول الخليج.

لا يمكن لوم الوزير الأسدي ولا رئيسه، وإنما لوم العرب، هذا النظام لم يخف طوال أكثر من نصف قرن سياساته ولا مؤامراته ولا طموحاته ولا جرائمه ولا قمعه شعبه وقتله وتهجيره… كان يجب أن يعملوا حساباً لما يعرفوه عن يقين.

وما يؤكد تصريحات الوزير، هذا إضافة إلى تصريحات إيرانية، عدم شمول التفاهم السعودي الإيراني الوضع السوري، مع أن الطموح كان لانسحاب إيران التدريجي من سوريا، وهو ما جرى ترويجه لإقناع الشعب السوري إعلاميا، يكفي أنكم ستتخلصون من التدخل الإيراني.

لكن حتى لو نجح العرب في إقصاء إيران عن سوريا، ففقد نسوا أن حزب الله على بعد خطوات من الحدود، وقواعده وخلاياه وحواجزه وحسينياته ومراقده منتشرة في أرجاء الوطن السليب.

وإن كان الطموح العربي ينحو إلى نزع سلاح “حزب الله” ودمجه في الحياة السياسية اللبنانية.

طبعا لا يمكن فهم هذه الأحجية المستعصية، خاصة إذا كان النظام يؤكد حقه في تفسير القرار 2254، بحيث كأنه لم يكن، وعدم طرح موضوع الوجود الإيراني لأنه شأن سيادي. أما عودة اللاجئين فأمرهم عائد للأجهزة الأمنية، كذلك ملف المعتقلين، لكن هل يوجد معتقلون؟

لا تفاهم حول هذه المعضلة المفتعلة إلا بما يتذرع به سياسيون مخضرمون وذلك بإحالة الحل إلى “الواقعية السياسية” وهي أشبه بـ”الواقعية السحرية” في الرواية، ما يؤدي إلى القبول بما لا يمكن القبول به، في حال حصل التطبيع.