تبدو الديمقراطية، على الرغم من استقرارها في أميركا وأكثرية دول أوروبا، وانتشارها في العالم، وتناوُلها في أدبيات الفكر السياسي سواء بالنقد أو التصحيح، تمرّ في أسوأ حالاتها؛ فالتشكيك فيها لم يفتر، كما الانقضاض عليها لا يهدأ، فالدول غير الديمقراطية تحاول إطالة أعمار أوضاعها الحالية، كما يُلاحَظ استعادة دكتاتوريات مريضة لعافيتها، مع أنّها كانت في طور التساقط، فالدكتاتوريات تتساند، وتبعث الحياة في تماوُتها، الأشدّ وضوحاً يبدو في الارتداد الروسي عن ادّعاءاته الديمقراطية، والناشط في حماية دكتاتوريات هشّة، كما في سورية، والعمل على إرساء دكتاتوريات في أفريقيا وأميركا اللاتينية، لمجرّد أنّها ضد الأميركان.
تُعاني الديمقراطيات من التردُّد إزاء ما تواجهه من مطالبات أحياناً تفوق إمكاناتها، وأحياناً أُخرى هي غير قادرة على تلبيتها، وقد تتصرّف غالباً على الضدّ ممّا تُبشّر به الشعوبَ الأُخرى التوّاقة إليها. لذلك كثيراً ما اتُّهمت بالكذب وازدواجية المعايير، عدا عن صلاتها الوثيقة بدكتاتورياتٍ والتعامُل معها سرّاً، ما يجعل خصومها يتّهمون حكوماتها بالخداع، وهي اتّهامات مُحقّة تتجلّى بتخاذلها عن أداء مسؤولياتها الإنسانية بمناصرة الشعوب ضد الطغيان. عموماً ما تزال صامدة في وجه عنصريات تتعاظم في دولها بالذات.
من جانب آخر، ليست الصورة سوداء بالكامل، هناك دول في أميركا اللاتينية وأفريقيا اختارت الديمقراطية بعد عهود من الانقلابات والفوضى والقمع والانفلات وحروب المخدرات. انتصرت على ماضيها الدكتاتوري والمافياوي. الخطر في الدكتاتوريات، عدا أنّها اليوم في أفضل حالاتها، هو في ترسُّخها وانتشارها، وكأنّها أصبحت مهوى أفئدة دول وشعوب، حظيت برؤساءٍ طموحاتُهم إلى السلطة، تحت عنوان الأمان والاستقرار والرفاهية، ولو كان بالتضحية بالحرية. رؤساء شعبويون يغازلون عواطف مواطنيهم الوطنية والقومية، وينادون بإبعاد الغرباء اللاجئين من عسف السلطات وضيق العيش.
أمّا عن عدم مبالاة الديمقراطيات في العالم بمساعدة ثورات تنشد الديمقراطية، فذلك لانشغالها بأحوالها الاقتصادية، لكنّ الأصح، ألّا يُنتظَر الكثيرُ منها، ربّما ولا القليل، وأن تعتمد الثورات على قدراتها في إسقاط دكتاتوريات تافهة، بلا أيديولوجيات تمتح منها ما يمنحها مظهراً مُخادعاً، وهي ليست أكثر من سلطات تعتمد الفساد آلية لتسيير الدولة، وتنشر مناخاً موبوءاً يساعدها على شراء أعوان وعملاء ورجال أعمال، وتعميم الصمت والخوف، بموجب زرع اعتقاد أنّها أبدية، بينما هي عابرة، فالطموح الإنساني ينزع إلى الحرية لا العبودية.
في محاضرته الافتتاحية في “مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية” مؤخَّراً تحت عنوان “ملاحظات عامّة حول الثقافة السياسية”، يقف المفكّر العربي عزمي بشارة عند طروحات شائعة تدّعي عدم إمكانية قيام نظام ديمقراطي في بلدان العالم الثالث، بحجة عدم توافُر ثقافة ديمقراطية مواتية لها، وهو ما يُفسّر غيابها تماماً، بينما في الغرب نشأت بمساندتها، أي أنّ قيامها مرهون بها، كمقدّمة لا محيد عنها.
تفسير غياب الديمقراطية، بعدم توافُر ثقافة مواتية لها في بلدان العالم الثالث، يقوم على التسليم بقيام هذا النظام في الغرب على هذه الثقافة، لكن كانت نشأتها على مراحل، وخلال زمن طويل، شهد ثورات وحروباً وتقلّبات وسقوط إقطاعيات وإمبراطوريات، وقيام دول، تطوّرت من خلالها نُظُم ديمقراطية كانت على تماسّ مع نضوج العلمانية.
لا تبتعد هذه النظرة عن فهم تسيُّد الديمقراطية كثقافة يتجلّى بالالتزام بسيادة القانون والتعدّدية السياسية، وحقوق المواطن وفصل السلطات، كانت في الواقع نتيجة ذاك التطوّر التدريجي، ترافقت مع الثقافة وسايرتها في الاتجاه نفسه. بعد قرن من الزمن، كانت النتيجة استيعاب مفاهيمها والتقيُّد بقوانينها. وإذا كانت هذه النظرة قد جعلت الانتقال نحو الديمقراطية مشروطاً بقيام ثقافة ديمقراطية، ما يعني انتظار ربما قرن كامل، مع ظروف ملائمة وأخطاء وعثرات وتجارب مخفقة، ريثما تعثر على ديمقراطية تلائمها، بينما هي متوافرة في العالم، لا تحتاج إلى التحقُّق فيما إذا كانت تناسب شعوبنا، طالما أنّ شعوباً وجدت فيها ما يحقّق حرياتها. إنّ الزعم بديمقراطية من نوع خاص، يمنح الدكتاتوريات فرصة ذهبية لإطالة فترة طغيانها بدعم من التنظير السياسي.
يُشدّد عزمي بشارة على مسألة الثقافة الديمقراطية ولا يغفلها، لكنّه لا يجعل منها عقبة ولا عائقاً، إذ تأتي في آخر سلّم الانتقال الديمقراطي. إنّ المطلوب هو الحدٌّ الأدنى منها لدى النخب، ليس لبناء الديمقراطية من جديد، بل للدفع نحوها، وتبنّيها مع التحذير كما شهدنا في الربيع العربي، خلاله فُقدت فرصة إنجازها بعد إسقاط حكّام استنقعوا في السلطة. كانت الضرورة تحتم الالتزام بالديمقراطية، وعدم تركها في مهبّ الخلافات الحزبية، وكان الخطأ الجسيم في تبكير الصراع على السلطة، قبل استقرارها، ما انعكس على الشعوب سلباً، إذ رأت في هذه الصراعات أنّ الديمقراطية نظامٌ من الفوضى، ولم تعُد نزاعات السياسيّين سوى نزاع على المصالح.
يلخّص عزمي بشارة شرط الانتقال الديمقراطي في العالم المعاصر في استقرار الدولة وشرعيتها، وإذا ركّزنا على الدول العربية، فيمكن الاستفادة من تجارب أخفقت جرّاء تقصير النُّخَب السياسية، ومعارضة الجيش والأجهزة الأمنية، وأحياناً وجود بيئة إقليمية معادية للديمقراطية.
تحجب الدكتاتوريات الحرّيات عن مجتمعاتها، في حين تسعى الديمقراطية إلى توفيرها. إنّ التوجُّه نحو الديمقراطية يعني وجود إرادة التغيير، إنّها حاجة إنسانية، أخلاقية وسياسية وثقافية، وهي خطوة نحو تحرُّر الذات من الاستبداد. إنّ الخطر من غيابها يؤدّي إلى الاستسلام للطغيان، ومثلما يسهل الاعتياد على الديمقراطية، يمكن الاعتياد على العبودية.