كثيراً ما كان التاريخ محلّ خلاف، كما كان محلّ صراع، لا تضنُّ استخداماته على تسعير الاصطفاف المذهبي، وبات يجد مجالاً في التخندق على ساحات الإعلام. وهو أسلوب غير مسؤول يورث العداوات في استغلال التاريخ كي يصبح عامل فرقة، أمّا السلاح فهو الدين. وهكذا يخدع المسلمون أنفسهم في الذود عن عقائدهم، باستعمالهم أسوأ استعمال، بالتلاعب به، لإثارة حرب كلامية إسلامية – إسلامية، قد تجد معبراً إلى الواقع، ومنه إلى ميادين جاهزة للقتال، وجمهور مسلّح في أكثر من بلد عربي، بدعوى المقاومة والصمود، بينما هي دعوة إلى التعصُّب.
التاريخ ببسيط العبارة “معرفة ما حدث وما قيل”، تساعدنا على فهم عالمنا، بالجواب عن سؤال: “لماذا أصبحنا هكذا؟”، ليس من خلال تاريخنا فقط، بل يمتدُّ إلى تاريخ العالم، ما يزوّدنا بمعارف ثَرّة بمعانيها وإسقاطاتها، تتناول كلّ شيء، من دون استثناء. من هذا الجانب، لا يجوز إغفال اللامبالاة في الدعوة إلى عدم الالتفات إلى التاريخ، واعتباره مجرّد شيء مضى، من العبث التفكير فيه، بينما علينا التوجُّه بأفكارنا إلى المستقبل، ما يؤيّد القطيعة مع الماضي، فالمستقبليون لا يعنيهم التراث، ويفضّلون الاستغناء عنه. وكأنّ في النظر إلى الماضي عودة إليه، تسلبنا وجودنا في الحاضر. إنّ الذين يتشبّثون بعدم تأثير التاريخ، وأنّه بمثابة العدم، عليهم أن ينسوه أوّلاً، لئلّا يقلق تفكيرهم في المستقبل.
لم تنشأ الكتابة عن التاريخ، والتحرّي عن أحداثه، لرغبة المؤرّخين في رواية ما حدث فقط، أو استعادة غرائبه المشوّقة، بل للتأمّل فيه والاعتبار منه أيضاً، ومحاولة تفسير تعاقُب الأحداث. ولقد أدرك المؤرّخون في كلّ عصر، مهما اختلفت نوازعهم واجتهاداتهم، أنّه لا يمكن فهم الحاضر دونما محاولة التعرّف على الماضي، ما قد يساعد على تحديد الاتجاه نحو المستقبل من دون إلزام. ليس التاريخ دليل عمل، غير أن التبصّر فيه، يحذّرنا من تكراره، لذلك كثيراً ما حضر الماضي بصورة هزلية أو مأساوية كانتقام من هؤلاء الذين أنكروه، متجاهلين أنّ له حضوراً في مجتمعاتنا، وما ارتداداته إلّا السقوط في فخاخ غفلنا عنها، وكان في الوسع النجاة منها؛ إذ سؤال التاريخ بالنسبة إلينا نحن العرب، يحمل خَلاصنا ممّا نزعمه عن الحمولة الثقيلة للماضي، إلى حمولة رصينة للماضي، إذ له ما له وعليه ما عليه.
التاريخ كتابٌ يشعّ بالحياة وعلينا قراءته بلا أفكار مسبقة
يطرح التاريخ الكثير من الأسئلة، في الإجابة عنها ما يمكن أن يُعيننا على إيجاد حلول لمآزق ما برحت تعاندنا، نراوح فيها منذ عقود، وربما قرون، لا تختصّ بماضينا وحده، بل الماضي الذي يشكّل سِجلّ الجهد الإنساني بارتقائه وتعثّره، وإنجازات لم تخلُ من نجاحات وإخفاقات، سقطات وأخطاء. لم يفتقد إلى أنبياء ورُسل، وأباطرة وملوك، وضحايا وشهداء، وحروب وسلام، اختلط على مدى عصور حطام عروش وتيجان، مع تهاوي إمبراطوريات، وتبدّد دول.
التاريخ مادّة للمعرفة، ومادّة لإدراك تباين مسيرات الدول والبشر، لم تكن حظوظاً ولا أقداراً. كيف احتوى العالم ديمقراطيات وشموليات في عصر واحد؟ لماذا حيث الطغاة يستشهد الفكر؟ هل ستمضي الشعوب المغلوبة على أمرها نحو الفناء وكأنّها لم تكن؟ ما السبب في زوال حضارات عظيمة؟ لماذا حمل طوفان من البشر الرايات الحمراء؟ لماذا قامت الثورات، ولماذا هُزمت؟ ماذا عن الإصلاح، لماذا تنفر السلطات منه؟ والكثير من الأسئلة. ليس أنّ المؤرّخين لم يلتفتوا إليها، بل انصبّت جهودهم عليها، وأحرزوا تقدُّماً في الإجابة عنها. وبشأن تاريخنا، نحن لا نقرأه، ولا نطّلع على جهود مؤرّخينا. وربما في اقتفاء آثار طه حسين وأحمد أمين وهشام جعيّط، وغيرهم كثيرون، ما يعوّض عن جهلنا به وبمجتمعاتنا.
ليست المعارك المصطنعة الدائرة حوله بين فترة وأُخرى، إلّا لأنّ هناك مَن يريد توظيفه في نزاعات سياسية، تخصُّ طموحات انتهازية، وكأنّ توثيق الخلافات بالتاريخ انتصارٌ لهم، بينما هي لتشويهه، وما يحيله في ظلّ هكذا إعلام ودول، إلى أبكم يُنطقونه بأهوائهم.
التاريخ ليس جثّة ميتة، يتنازعها الورثة، ولو كان هناك من يزعم بأنّه يعيده إلى الحياة، لكن ليبُثّ الموت. إنه كتاب يشعّ بالحياة، نحن بحاجة لقراءته من دون أفكار مسبقة.
-
المصدر :
- العربي الجديد