في ظل الطوفان الذي نشهده على صعيد الأعمال الروائية، بعد أن بات كثير من الكُتَّاب يفضلونها على غيرها من الأجناس الأدبية، أضحت الرواية ديوان العرب، فمن خلالها يوثق الأدباء يومياتهم وتجاربهم في الحياة، وآراءهم في ما يدور حولهم من أحداث.
في خضمّ كل هذا تأتي الأعمال النقدية دليلاً على جودة العمل الأدبي، من هنا تنبع أهمية الدراسة النقدية «ضمير المتكلم.. المواجهة الطائفية في رواية «السوريون الأعداء» لفواز حداد» التي أجراها الناقد والكاتب محمد منصور مؤخراً، وصدرت عن دار موزاييك للدراسات والنشر في إسطنبول.

أيديولوجيا وديماغوجيا

عبر مئة وستين صفحة في ثمانية فصول، يحاول منصور تحليل هذه الرواية المحكمة السبك، وقراءة ما بين سطورها، وتفكيك شخصياتها وأحداثها الزمكانية.
بداية يجب القول، إن أهم ما يميز هذا العمل أنه تمرد على أدب إنكار الواقع، ففي أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي كانت الأعمال الأدبية «تُقيَّم بناءً على موهبة كاتبها، وعلى فرادة رؤيته الفنية، وخصوصية معالجته لموضوعاته» قبل أن يتسيّد التيار القومي الساحة، ويصبح الفن بأنواعه المختلفة أداة مسيطرا عليها لغسيل العقول بالأيديولوجيا والديماغوجيا، بدلاً من توعيتها بالأفكار الخلاقة، وتنمية الحس الجمالي فيها.

نزار قباني رجعي!

وبالفعل، بعد انقلاب البعث وسيطرته على الحكم في سوريا، تغيرت المعادلة بشكل جذري، وأصبح النقد متركزاً على كل ما يخص ثقافة الأكثرية من معتقدات وعادات وموروث وثقافة، وبات ما عدا ذلك لا يمكن تسميته بالنقد التقدمي، ولا عجب حينها أن تقرأ أن هناك من كان يعتبر نزار قباني وعبد السلام العجيلي والفنان حكمت محسن ضمن الرجعيين! استطاع فواز حداد في روايته «السوريون الأعداء» الصادرة عام 2014، أن يسبح عكس التيار الثقافي المتعامي السائد. ففي تقديمه للرواية يقول «هذا كتابي عن الضمير.. تلك هي المسألة» ومن هنا عنوّن منصور دراسته «الضمير المتكلم» لأن كل ما يقوله حداد صادر عن ضمير حي، دون إلقاء بال للحسابات الأخرى، فـ»الكتابة عن الواقع بوضوح ودون مواربات أكبر من كل (برستيج) الأدب التقدمي التبريري والذرائعي، أكبر من أن يتهمك كاتب يساري أو آخر طائفي حتى النخاع بدائه ثم ينسل، وهو يرى القشة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في عينه».

تنويع في تقنيات السرد

منصور يسهب في شرح تقنيات السرد الروائي وأشكال حضور الراوي في العمل، وكيف استطاع حداد أن ينتقل بكل سلاسة من السرد الموضوعي، حين يكون الراوي كلي المعرفة، إلى السرد الذاتي حين تقوم إحدى شخصيات الرواية بالسرد، وتكون معرفتها محدودة. جسّد الراوي الذاتي (سليم الراجي) شخصية البطل الإيجابي في العمل، في حين رافق الراوي الموضوعي الشخصيات السلبية من قتلة وضباط أمن ومخابرات وسجانين وسماسرة. يقول منصور: «لسنا أمام حالة تعدد أصوات كاملة ولا صوت راوٍ وحيد، لكننا أمام حالة ثنائية يتناوب فيها الراوي الذاتي مع الراوي الموضوعي، ويكمل كل منهما الآخر، وتتحول بنية السرد إلى مزيج فريد من تأملات سيرة ذاتية مفترضة، وسرد موضوعي تام».


محاور الصراع

عن الفصل الرابع من محاور الصراع الدرامي، يقول الكاتب: إن أحداث الرواية تهدف إلى توجيه رسائل عما وراء الحدث، «وسواء كان ما يجري تسجيلاً حقيقياً أو عملاً متخيلاً.. أو مزيجاً من وقائع جرت وأضاف إليها الكاتب من خياله ما يعمق ملامحها ودلالاتها، فإن ميزة الرواية أنها تجعل من الكواليس مختبراً لكشف محاور الصراع التي تختبئ وراء الأحداث» وهنا يرصد الباحث ثلاثة أنواع للصراع في (السوريون الأعداء):
الصراع بين الممارسة الطائفية وقيم المشاركة الوطنية:
يقول منصور إن فواز حداد يؤسس للصراع الطائفي كحجر زاوية لكل الصراعات الدرامية في الرواية. فلا يوجد أي أزمة أو مشكلة أو تفصيل، لا يمت بصلة إلى هذا الصراع أو يتأثر به أو يتقاطع معه أو ينتهي عنده.. حتى الخلافات بين العلويين الذين يتمسكون بانتمائهم الوطني، سببها إدراكهم لرغبة السلطة في وضعهم في مواجهة باقي المكونات السورية، وتدمير مستقبل التعايش بينهم وبين باقي السوريين.
الصراع بين قوة القانون النظرية وسلطة أجهزة المخابرات الفعلية:
يرى الباحث أن الصراع بين الطائفية والقيم الوطنية يفتح الباب واسعا أمام حالات المحسوبية والفساد.. ولهذا لم يكن رجال القانون الذين أدخلهم فواز حداد إلى روايته كأبطال دراميين (القاضي سليم الراجي، والأستاذ رشدي المستشار في محكمة النقض) مجرد حالة تنوع مهني لشخصيات الرواية، فهذه العقلية الطائفية لا بد أن تصطدم بالقانون في كل حركة وسكون، لا بد أن تدوسه وتسّفه قيمه، وتنال من حضوره وقوته، لا بد أن تجعله عاجزاً مجرداً، ليس من أسلحته فقط في مواجهة سلاح الطائفة وحسب، بل وحتى من قدرته على الفعل والحركة.
الصراع بين قدسية الله، وقدسية حافظ الأسد:
الصراع الدرامي الأكثر إثارة هو صراع التأليه.. أي محاولة فريق من الطائفة العلوية إحلال حافظ الأسد مكان الإله! ولعل مقولة «الله هو المطلوب رقم واحد في أجهزة المخابرات السورية» تمثل جملة شكسبيرية إعجازية يوردها فواز حداد تختزل هذا الصراع. وعبارة: حلّك يا الله حلّك.. يقعد حافظ محلّك» التي انتشرت بعد مجزرة حماة، ليست مجرد شعار غوغائي مفرغ من مضمونه. إنها مثل عبارة «قائدنا من القرداحة- بيعطي على الله لاحة» التي تمثل تعبيراً عن هوس طائفي في محاكاة العبودية المطلقة التي يكنّها المؤمنون لله.
يحضر حافظ الأسد كشخصية روائية في (السوريون الأعداء) بصفته «الرئيس». حين يقابله النقيب سليمان أو «المهندس» كما لّقبه، مستفيداً من رصيد نذالته بعد أن وشى بخاله المسؤول البعثي الكبير المعارض لحافظ الأسد، والذي لجأ إليه هاربا، ثم بعد ان تتكرر اللقاءات مع الرئيس، يستمزج رأيه بفكرة تنصيبه إلهاً لا حاكماً مطلقاً أو شخصاً مميزاً بين البشر وحسب، والحوار الذي يدور بينهما، يبدو من أكثر حوارات الرواية حساسية درامية.


الإله والحلول

فالنقيب سليمان طرح فكرة تأليه حافظ الأسد، وهي فكرة استقاها من أحد الشيوخ خلال زيارته لضيعته، بعد الحديث عن أن الله يحل في الإمام علي والإمام علي قد يحل في بعض البشر. ظاهرياً أبدى حافظ الأسد انزعاجه، لكن هذه الفكرة أعجبته والدليل أنه طالب النقيب سليمان أن يعمل في القصر، دون أن يحدد له مهمة معينة، ما يعني بالضرورة العمل على هذه الفكرة. يعلق منصور على هذه الجزئية باعتبارها «تفضح حالة المكر هذه، فكرة الذكاء المطلق للأسد كشخصية روائية هنا، فالمكر هو مزيج من الحذر والتنصل والخداع، وهو يختلف عن الذكاء، الذي آلياته مختلفة». في الفصل الخامس من الدراسة يتناول منصور بالتحليل الأمكنة التي دارت فيها أحداث الرواية، وهي حماة التي تم سحقها خلال انتفاضتها عام 1982، وسجن تدمر الشاهد على جحيم بشري ومسلخ إنساني، فيما دمشق كانت وما زالت العقدة.

ذكاء أم مكر

أما الفصل السادس فيشير إلى القصر الرئاسي وشخصية حافظ الأسد الروائية، فهذا المكان هو فضاء واسع للوشاية والدسائس، والبنية المغلقة تتمحور حول شخصية الرئيس لا دوره، وكل شيء في القصر يتم بهدوء وصمت يشبه ويراعي حالة الوقار التي تتسم بها صورة الرئيس، لكنه الهدوء الذي يستبطن البطش والقسوة ويحرك خيوط الاستئثار المديد بالحكم. يرى الناقد منصور أن الروائي فواز حداد قدم شخصية حافظ الأسد بوجوه متعددة، لم يكن يعنيه أن يكون خارق الذكاء، بل ركز على قسوته الناتجة عن الجمود، وميّز بين الذكاء والمكر. وأوضح في غير موضع أن آليات اختبار الرئيس لمن يريد أن يمنحهم الثقة ممن حوله، لا تخلو من انتهازية وجبن. فهو يعطيهم الفرصة لينفّذوا ما يقترحونه، دون أن يأخذ ذلك على عاتقه، فإن نجحوا تبنى نجاحهم، وإن فشلوا عاقبهم عقابا قاسياً.

دولة الخوف والبطش

حسناً فعل منصور بوقوفه ملياً عند هذه الرواية، التي نجحت في تفكيك البنية الطائفية لنظام الأسد عبر قالب درامي متكامل الأركان. ففواز حداد تجرأ على الخوض في موضوع شائك ومخيف، كان الروائيون يحومون حوله ولا يجرؤون على الاقتراب منه لأسباب عدة، أهمها الخوف.. ألم يفقد الكاتب الفرنسي ميشيل سورا حياته ثمناً لكتابه «سوريا الدولة المتوحشة» ثم بات الكتّاب حتى الغربيون منهم عندما يريدون الكتابة عن (سوريا الأسد) يذيلون كتبهم بأسماء مستعارة، فإلى الآن نحن لا نعرف الاسم الحقيقي للكاتب الفرنسي صاحب «سوريا في عهدة الجنرال» خشية من أن يفقد حياته.
السبب الثاني هو الخشية من الاتهام بالرجعية والطائفية، وهي تهمة دأب إعلام النظام ومثقفوه على رميها في وجه كل من أشار لبنية النظام الطائفية، حتى لو كان المشير لذلك فرنسياً منتمياً لليسار البعيد كل البعد عن التوجهات الدينية.