فواز حداد روائي سوري؛ شبه متخصص في الحديث -عبر رواياته-عن مفاصل تاريخ سوريا السياسي -طبعاً بقالب روائي مناسب دوماً-، قرأنا له أغلب رواياته.
روايته هذه تتحدث عن مرحلة مفصلية من تاريخ سوريا، الخمسينات من القرن الماضي، التحرر حديثاً من الاستعمار الفرنسي، وبداية حياة ديمقراطية متعسرة، وتدخل شبه سافر ودائم في الشأن السوري من القوى الدولية؛ خاصة الأمريكان والإنكليز والفرنسيين والروس على استحياء، وبداية ظهور طبقة ضباط الجيش واهتمامهم السياسي وطموحهم بلعب أدوار أدت إلى انقلابات متتالية.
الرواية غوص في هذه الأسباب العميقة، ودور هذه القوى بما حصل في سوريا في ذلك الوقت.
تبدأ الرواية عبر شخص الراوي، حيث يقدم نفسه أنه موظف دبلوماسي سوري، كان يعمل -في ذلك الوقت-مع رئيس وزراء تلك الفترة وكان قريباً مما حصل، وخاصة أنه اطلع على كتاب -صدر حديثاً-لأحد رجال الاستخبارات الأمريكية عن تلك الفترة، وأنه وجد أن هناك نقصاً مع مغالطة في المعلومات فتوجب أن يكتب نصه هذا.
في الرواية أيضاً مكان للحب؛ الراوي نفسه يتقاطع قدره مع فتاة (سعاد) كان لها دور في تلك الأحداث ويحبها وتحبه، وسيتضمن نص الرواية مشاعره التي عاشها اتجاهها ولم يستطع أن يبوح بها إلا متأخراً.
الرواية غوص في السياسة والتدخلات الدولية والتاريخ والعواطف والتفاعلات السياسية السورية.
الراوي يتلقى اتصالاً من رئيس الوزراء يعلمه به أنه يريده لمهمة خاصة، ويلتقيان ويخبره أن عليه متابعة موضوع النفط المحتمل وجوده في سوريا، وعليه أن يتواصل مع شركات ومؤسسات سعودية ليتنور حول الموضوع وتجهيز المعلومات والمواقف لاحتمالات قادمة، وعلى مستوى آخر ترسل شركات النفط الأمريكية مندوبها للمنطقة ساندروز لكي يلتقي بالمسؤولين السوريين ويناقش معهم استعدادهم للتعاون وتبادل المصالح وإنجاز صفقة، وكان لا بد أن يمر على بيروت حيث يلتقي بمسؤول المخابرات الأمريكية أوستن ويمتزج رأيه، سيلتقيان ويتبادلان المعلومات؛ نعم هناك اكتشافات نفطية قد حصل عليها العالم الفرنسي جوبلان، الذي كان وفريقه البحثي يعمل عبر سنوات في سوريا في البحث عن الآثار، جوبلان يتعامل مع استخبارات دولته يقدم لهم المعلومات، والفرنسيين يعطوها للأمريكان ويطالبون جوبلان بالتواصل مع الأمريكان، جوبلان يكتشف أمره من الاستخبارات السورية.
وأنه كان يتستر في بحثه عن النفط تحت دعوى العمل في الآثار، ويلاحق من الحكومة السورية التي ترى أنها تحتاج للمعلومات التي لدى جوبلان لكي تبني مواقفها ومطالبها على ذلك، وفوق ذلك تحاسبه على كونه خدعها عبر السنين الماضية بكونه يبحث عن الآثار مخفياً بحثه الحقيقي عن النفط، لذلك تطارد جوبلان وتحاول القبض عليه.
لكن جوبلان يهرب ويتوجه إلى لبنان مركز الاستخبارات الدولية طالباً النجدة من سفارته هناك. يطلبون منه أن يتواصل مع الأمريكان ويقدم لهم ما عنده، يحس أن دولته خانته وباعته ورفعت عنه الحماية، ويعيش ظروفاً نفسية قاسية وينتهي مقتولاً أو منتحراً، وأوراق جوبلان تبقى بيد اثنان من أصدقائه.
أولهما طرواح صديقه السوري المطلع على أعماله والمهتم مثله بموضوع النفط، والثاني نائبه في البعثة كرو الذي استلم شؤون البعثة بعده، وهناك شخص ثالث يربط بين الإثنين…
إنها “سعاد”: الفتاة الدمشقية المثقفة المتميزة التي تعيش شبه وحيدة، وعندها نادي ثقافي تجمع حولها وجوهاً سياسية وثقافية، يعرفها الراوي منذ طفولتها ويحبها منذ ذلك الوقت وها هي الأقدار ترميها في طريقة ثانية، سيطلب منه رئيس الوزراء أن يتابع موضوع النفط وجوبلان المقتول وكرو وطرواح ويعرف حقائق الأمور، سيتواصل مع سعاد، ويعيش معها حواران أولهما مباشر حول الموضوع المكلف به، والثاني نفسي داخلي وجداني شعوري عن حبه لها، وكيف يعجز عن أن يبوح به وأن يقول لها كم هو متيم بها، وهي التي تزوجت مبكراً ممن تحب لكنها فشلت بحبها وتطلقت وعاشت حياتها بعد وفاة والدها وحيدة في نشاطاتها الاجتماعية والثقافية، وعلم أيضاً أنها كانت تحب كرو وهذا شكل له غصة لا يستطيع أن يبوح بها، المهم تابع الراوي مهمته بالبحث عن طرواح وعبر التأثير على سعاد وكرو ليصل إلى أوراق جوبلان ومعلوماته عن النفط السوري المحتمل، وكان هناك تفاعلات داخلية سورية حول النفط، فقد حاول طرواح أن يصل بمعلوماته للمعارضة السورية، ويقدم ما عنده ويحمي نفسه ويدفعها لتواجه الحكومة وتسقطها إن أمكن، لكنها كانت عاجزة عن ذلك، وتواصل مع القوى السياسية الصاعدة الأخرى ولم تستطع أن تقدم له ما ينفعه، حاول معه كرو ودفعه ليبيع المعلومات التي بين يديه للأمريكان عبر الفرنسيين، لكنه بقي مرتاباً وخاف أن يتحول لخائن، وعلى مستوى آخر كان أوستن مندوب المخابرات الأمريكية في المنطقة مع ساندروز مندوب شركات النفط يبحثون عن حل، فقد صنف أوستن رئيس الوزراء السوري بأنه غير قادر على عقد صفقة؛ وأنه محكوم بالرأي العام السوري الذي لا يرتاح للغرب ودوره في المنطقة؛ الغرب المتحالف مع (إسرائيل) والغير متجاوب في بيع السلاح لسوريا، والذي ينظر للمنطقة على أساس مصلحة (إسرائيل) على كل المستويات.
أمريكا وحلفاءها الإنكليز والفرنسيين ينظرون للنفط على أنه حق لهم، وعليهم أن يمنعوا وصوله لغيرهم وخاصة الروس الذين يغازلون دول المنطقة، وأمريكا تروج لنفسها ولمعسكرها أنهم حماة المنطقة من التغول الشيوعي عليهم جميعاً، وكانوا يسعون لضم سوريا لحلف تركيا والعراق والغرب ( المسمى حلف بغداد)، ولذلك كانوا حريصين على ألا تصل المعلومات التي بحوزة طرواح للحكومة السورية، وعملوا لاستدراجه إلى لبنان أو داخل سوريا حيث يقتل، ويأخذ كرو منه الأوراق، ويهرب إلى لبنان وتلحق به سعاد إلى هناك، ومن بعد ذلك سيتبعه الراوي.
سيلتقيان في مكان ما حيث يقتل الراوي كرو لأنه قتل طرواح، وبعمق نفسه من أجل حرمانه من سعاد -حبه-التي كانت تجهز نفسها للسفر مع كرو لفرنسا نهائياً، حيث كانت مخدوعة به. فعل ذلك بعدما فضح ما فعله كرو الذي قتل طرواح وأخذ الأوراق منه ويهرب للبنان.
وعلى مستوى آخر كان طرواح قد عمم معلومة النفط حتى على الطبقة الجديدة من الضباط، الذين كانوا يرون أن إدارة السياسة في سوريا خاطئة، فالجيش لا اهتمام به ولم تستطع الحكومة تأمين السلاح اللازم له، وكذلك التجييش تجاه (إسرائيل) دون أي فعل جدي بمواجهتها، كانت التوترات بين الجيش والحكومة تتصاعد والحكومة عاجزة عن فعل أي شيء، وهناك صراع خفي بين قائد الجيش “اللواء” ورئيس الأركان “العقيد”، الأول سلطته رمزية والثاني هو المتحكم، لكن لا يعرف كيف يتصرف تجاه ما يحصل في البلاد المحكومة بديمقراطية شكلية، لكن موضوع النفط تفاعل في أوساط الضباط وبدأت تتجهز مجموعات منهم لتصنع انقلابات عدة وصلت لخمسة أو أكثر، المعلومات وصلت لرئيس الوزراء واوصلها لرئيس الجمهورية وكلاهما أعلما قائد الجيش ورئيس الأركان، وسرعان ما تصرف رئيس الأركان وحاصر الانقلابيين وقبض عليهم قبل أي فعل وسيطر رئيس الأركان على الوضع، وطلب من الرئيس حل الحكومة وتعيين حكومة على هواهم وعزل قائد الجيش وصنع دولة على مقاس العسكر، وبالمقابل لم يكن الأمريكان بعيدين عما يحدث عبر أوستن، فقد توصلوا إلى أن وجود حكومات عسكرية أكثر قوة في سيطرتها على دولها، وأكثر استعداداً لأن تصنع صفقات تلتزم بها؛ لذلك باركت الانقلاب الأبيض الذي قام به رئيس الأركان السوري.
وعلى مستوى آخر وافقت الحكومة الأمريكية مع مسؤولي شركات النفط على تمييع موضوع النفط السوري الآن لكي لا تحصل منافسة عليه ولكي لا تغرق الأسواق بالنفط وتخسر الشركات، ليتركوه مخزوناً استراتيجياً في المنطقة، وقرروا أن يعملوا أبحاثاً حول عدم وجود نفط في سوريا، مدعم بتجارب ميدانية وسحب ورقة النفط السوري من التداول إلى حين، وهكذا حصل…
في مستوى آخر تغوص الرواية عميقاً في قراءة الحضور الغربي الاوربي والأمريكي المسيحي (الإنجيلية) مبشرين من بداية القرن العشرين، فها هو والد ساندروز ورفيقه بيردي يرحلان إلى البلاد المقدسة بلاد الشام وفي مركزها (أورشليم) القدس، متغطين بدور تعليمي وخدمي إنساني، سيصلان إلى لبنان وهناك يبدآن رحلتهما بالعمل لنصرة دين الله القويم (المسيحية الإنجيلية)، يبحثان عن بيرج الذي سبقهم إلى هنا لكنه معتكف ولم يستقبلهم، سيتعرف والد ساندروز على فتاة من الارسالية ويتحابان ويتزوجان وينجب ساندروز وسرعان ما يمرض ويموت، ويترك مهمة التبشير باستعادة أرض الله المقدسة من الذين يسكنوها وتسليمها لليهود حيث يجمعوا في فلسطين ثم يتحولون للمسيحية ثم ينزل المسيح وتقوم القيامة.(كما يعتقدون كمسيحيين صهاينة)، يترك المهمة لصديقه بيردي، أما بيرج فيتابع دخوله في عوالم اللاهوت للمنطقة وفي ذاته، ويتابع بيردي المبشر المتحمس رحلة الهداية وتنفيذ الوعد الإلهي لليهود في أرض الميعاد، سيتوجه لفلسطين وقلبها القدس ويتعايش مع بداية الحضور اليهودي فيها. يهود العالم الذين يتم التخلص من عبئهم بترحيلهم لفلسطين كما تتصور أغلب دول العالم، البعض ينفذ وعداً إلهياً موهوماً، والدول تزرعها هناك لخدمات سياسية بعيدة المدى، في أرض السمن والعسل والأديان والنفط المكتشف حديثاً.
يصل بيردي إلى فلسطين ويتعايش مع بداية خلق الكيان الصهيوني، ومع المجازر التي بدأت تحصل بحق الفلسطينيين لدفعهم للهجرة وترك فلسطين خالية لهم مع حلمهم.
سيكتشف بيردي أن في فلسطين بشراً هم أصحاب الأرض، وسيكتشف أن هناك مسيحيين أيضاً؛ لكنهم مختلفين معه ومع رؤيته الدينية، ومنهم رجل الدين بطرس البحصاوي الخوري القادم من دمشق للخدمة في كنائس القدس، سيصطدم مفهومين للمسيحية (الشرقية والغربية)، سيصطدم إدراكين لما يحصل ويبدأ عراك ذهني بين بيردي وبحصاوي، يؤدي لتغيرات عميقة في عقل ووجدان بيردي الذي تعايش مع مجزرة كفر قاسم، ولم يستطع أن يتفهم كيف حول اليهود الظلم الذي وقع عليهم في أوروبا إلى ظلم على الفلسطينيين، وهل فعلاً هو أمر إلهي أم قتل وتشريد الشعب دون وجه حق، سيتوه بيردي وجدانياً وعقلياً وسيبحث عن خلاص. سيلتقي ببيرج المبشر المعمر الذي تجاوز المئة، والذي كان تركه في معتكفه في لبنان، والذي خرج من معتكفه ورحل متنقلاً في بلاد الشام، إلى فلسطين، إلى سيناء، بحثاً عن إله لم يستطع الوصول إليه إلا مرات قليلة ولم يروي حاجته لليقين، سيبحث بيردي عن بيرج وسيصل إليه في سيناء، وسيزرع داخله مزيد من القلق الوجودي والوجداني والعقلي، حيث يقدم له بيرج رؤيته بعد عمره المديد: أين الله؟ وإن كان موجوداً لماذا يحصل كل هذا الظلم بين البشر ويسكت عنه؟
سيموت بيرج في صحراء سيناء، ويعود بيردي لفلسطين محاولاً أن يجيب على أسئلة عقله ووجدانه، ويعمل مع المنظمات الدولية لخدمة اللاجئين الفلسطينيين، الذين بدأوا يتحلوا لمأساة إنسانية تستمر عشرات السنين بعد ذلك.
سيبحث ساندروز عن بيرج وعن بيردي، وسيحصل من أوستن على هذه المعلومات، وسيتم تصنيف بيردي عميلاً لهذا الطرف أو ذاك: إن أي أحد عند الأمريكان جزء من لعبتهم، عدو أو صديق، يخدم الخطة الموضوعة للمنطقة والعالم أو يقف ضدها وكيفية التعامل معه، وهذا ما فكر أوستن وما مارست إدارته الأمريكية تجاه ملف المبشرين وشركات النفط ودول المنطقة وضرباً للديمقراطية الوليدة ودعماً للانقلابات العسكرية، ورعاية للدولة الوليدة (إسرائيل)، هكذا كان وهكذا ما زال يحصل، تغير الزمان والحكام وتغيرت آليات التعامل لكن الاستراتيجيات لم تتغير:
السيطرة على منطقتنا واستنزافها بكل الطرق، ومنعها من التحرر والتقدم وصناعة حياة إنسانية سوية أفضل.
ما أقرب البارحة إلى اليوم.
-
المصدر :
- الأيام السورية