ترى من هو “مرسال الغرام”؟ الذي تتحدّث عنه رواية فوّاز حداد (“دار رياض الريس للكتب والنشر”، طبعة ثانية 2018) إنه “الراوي” والشاهد على الأحداث، شاب هامشي كسول، قد تكون اللامبالاة الصفة الأكثر التصاقاً بشخصه، أو مجرد كومبارس في لعبة السرد، يجد نفسه فجأة يقتحم عوالم غريبة عنه، ويواجه أحداثاً استثنائية تمور بالغرابة والفوضى، فتنتهي حياة الدعة، ويصبح لاعباً رئيسياً، يسرق الوهج من لاعب الرواية الأساسي محمود رشوم، وينخرط في حيوات أناس آخرين، أهمهم الممثلة ناريمان، ليكون مرسال الغرام بينها وبين رشوم سيئ الصيت، يحمل إليها سيناريو، لا يخفي وعد الحب المشروط، ويتورط في حبكة غير متوقعة، تقوده الى الخلاص من العجز الجنسي، على يد ناريمان، التي استطاعت أخيراً ان تشعل نار الغرام والرغبة في جسده، بعدما فشلت كل محاولاته السابقة للشفاء منه، مع المرأة اللطيفة “لطيفة” التي تبيع جسدها مقابل المال.
من أوقد شعلة الحياة في هذه الشخصية الخامدة؟ محمود رشوم، الجار العاشق، والشخصية الملتبسة، الفاعلة والمنفعلة، الذكي المتلاعب المخاتل، الذي اخترع أسطورة الأصوات، وعاش هوس الميكروفونات والتسجيلات، ملمحاً الى استطاعته الوصول الى لحظة الصدق في دهاليز الكذب والنفاق، مستخدماً نغمة الصوت وبحته وغنته وصعوده وهبوطه. يعذبه لهب العشق، وتؤرقه حرقة الانتقام من الممثلة ناريمان، اللاهثة وراء الشهرة والأضواء والمال، الرافضة لحبه، والغارقة في إغراءات الطامعين في جمالها. يُفبرك قصة “سيناريو” ملغز، ليستعيدها إليه. سيناريو لعب الدور الأهم في الرواية، وكان الخيط الرفيع، الذي شد الأحداث والشخصيات الى بعضها بعضاً، لتبقى لصيقة على الدوام بخط الرواية العام، وقدمه للممثلة هدية حب وانتقام.
عبْرَ مزيج من المتضادات والتناقضات، يختلط فيها عالم البسطاء، بعوالم المال والثراء والوصولية، تتحكم أقدار عمياء، بفانتازيات الخيال الجامح، والغرق في العشق والثأر والانتقام، والألم والسخرية من الألم. تتحكم فيها أقدار عمياء، يتمظهر البناء الروائي في أحداثها المتشابكة، باستحضار زمنين متباعدين، وقصة داخل قصة، ضمن خطين دراميين، يسيران بشكل متوازٍ، كل خط له عناصره وأدواته، لا يطغى أحدهما على الآخر، ما لا يمس وحدة الرواية في استحضار رحلة عبر زمن أم كلثوم، من خلال جمعية متخيلة، أطلق عليها اسم “جمعية عشاق أم كلثوم”، ينتحل أصحابها شخصيات زمن غابر، ويعيشون وهم أحداث مضت، تضج بالفن والحب والدسائس والفتن.
القاهرة في الأربعينيات، العائلة المالكة وفضائحها، أم كلثوم الفنانة العظيمة، سيدات الصالونات ودسائس القصور، اشتعال نار الحب والغيرة بين عشاقها، التنافس بين أحمد رامي والقصبجي، ليقدموا لها أجمل القصائد، وأحلى الألحان، لتتربع ملكة وحيدة متوجة على عرش الفن. علاقتها مع عبد الناصر الابن البار والقوي لمصر، هزيمة حزيران، وربطها بآهات الطرب وسلطنته، وتخدير الشعب العربي.
“�جرأة في وضع النقاط على زمن أم كلثوم والزمن الحاضر�”
أحداث مشبعة بالدلالات والرموز. أما الجرأة، ففي وضع النقاط على زمن أم كلثوم وأحمد رامي، والزمن الحاضر. تربط المصائر الانسانية، نوازع الكيد والحب والانتقام، كأنما قد يتغير الزمن، لكن الإنسان وطبائعه، لا تتغير.
الحدث الأهم والأبرز، المسار الذي اتخذه خط الرواية منذ البداية، وكان موجوداً دائماً كخلفية للأحداث، عناصرها المكان والزمان، أراد الكاتب وإن بمرارة، الغوص فيه، هو الزمن الحاضر، الزمن السوري تحديداً، أشار اليه بجلاء، دون مواربة، بلغة واقعية غير منمقة، لغة السرد المباشر، وأحياناً الدارجة، بل الهابطة، كل ذلك للتماهي والانجراف العارم مع شخصياته، وربما اعتقدنا أنه وقع في فخ التطويل الممل، إلا أنه سرعان ما ندرك بوضوح ضرورته، وكان الأكثر وفاء للنص، يشرح من خلاله بدقة وتفصيل متاهات ودهاليز وأقنية وأقبية، ودوائر ندور فيها، ثم نعود صاغرين الى المركز، لُب المشكلة: الفساد.
حيث كل شيء يباع ويشترى، بدءاً من الإنسان والضمير والأحلام والعلم والفن والمبادئ، وليس انتهاء بالوطن والمصير. يبدأ الإنسان بريئاً، ثم سرعان ما يتخبط في مستنقع موحل، مجتمع الرشاوى والمخبرين والمتنفذين من رجال المال والسلطة، أصحاب الصفقات المشبوهة والمشاريع المموهة، السهرات والنساء والجنس، والدهاليز الخفية، والفخاخ المنصوبة في كل درب له رواده الكثر وأسياده المنتمون إلى أسيادهم. ترى هل كان الكاتب يقدم لنا ما سيحدث في السنوات التالية؟ يشعل الإشارات الحمراء، ويعلن حالة التأهب القصوى (صدرت طبعة الرواية الأولى عام 2004).
الرواية متعبة، ربما هذا سرها الجميل، فرغم سلاسة السرد، إلا أنك تلهث وراء المعنى، وتستنطق كل جملة في فضائه السهل الممتنع. هذه شيفرة فواز حداد، التي يستعملها عادة، يحفز ويستفز، منبهاً القارئ، ليبقى متيقظاً، يلتقط اللفتة الذكية، واللمحة الملغومة، والنقلات المتلاحقة، والتماهي بين الحقيقة والخيال، والشكوك إزاء المسلمات.
بينما السيناريو اللغز، يبحث عن خاتمة، ليضع النهاية، نهاية تجيب على الكثير من أسئلة الرواية، يحمل ثقلها، ويربط بين زمنيها المتوهم والحقيقي، قد يدركه التعب، وقد يدخل منعطفات زلقة، تُشعِر بصعوبة العودة، إلا أن السيناريو سرعان ما يسترد عنفوانه، وبحرفية تامة يعود بالرواية الى مربع الأحداث، والخروج الى نهاية مفتوحة. المؤكد أنها ليست بالرواية التي تقرأها للاسترخاء قبل النوم.
“�ترى هل كان يقدّم لنا ما سيحدث في السنوات التالية؟�”
أما الشخصيات، التي تقود الحدث، وتتفاعل معه. فيقدمها لنا فواز حداد كما هي في الحياة، بعريها ونفاقها وشرها وضعفها وشهواتها ونزواتها وجمالها وطيبتها وهشاشتها، ينتزعها من الحياة ويطلقها في الرواية. خليط من متناقضات الخير والشر، يكسر قاعدة الأبيض والأسود.
أم كلثوم، رغم أنها وإن كانت “استغلّت” غرام رامي والقصبجي بها، إلا أن ذلك كان من أجل غرام كبير، غرام الفن العظيم. “لطيفة” اللطيفة الفقيرة المقهورة، ضحية المجتمع. رشوم رغم كل حيله، إلا أن له وجهاً آخر، وجه العاشق المطرود من جنة الحب. وحتى م.ع، الذي بدا كرئيس لعصابة مافيا، وعضواً أساسياً في حلقة الفساد، كان بريئاً يوماً، حين كان شاباً يافعاً فقيراً أتى من القرية ووقع في مطب الانتهازية، بعدما انتشله قريبه ل.ع، ووضعه على مسار الفساد. أما الأعمى، الشخصية المحايدة المخيفة، فبقيت عصية عن الفهم والتطويع، هل كان القدر المتحكم بهم؟
يغلق الكاتب الخطوط المتشابكة، خطاً وراء خط، من هو الخاسر ومن هو الرابح، ومن هو المنكسر؟ ماتت أم كلثوم في الرواية وبقي عشّاق سيدة الغناء العربي مخلصين لفنها وصوتها الخالد. رشوم المثقل بأعباء حب فاشل، خرج خاسراً من الحب والانتقام والأصوات والسيناريو، جراء الضربة القاصمة التي كالتها له ناريمان، بإهداء مرسال غرامه ساعات من الغرام والوصال ممتعة فوق الوصف، هدية انتقام مجانية لمن فضح أسرارها. بينما الراوي، الذي أغوته وتغلبت على عجزه، كان منكسراً أمام آلام صديقه الذي أطلقه إلى حياة كانت عجيبة. أما الكورس، “م ع” و”ل ع”، وجوقة المحققين والمفتشين، والمطبلين والمزمّرين، فما زالت تصول وتجول.
وحده الأعمى، المبصر الوحيد، كان الكليل عما آلت إليه الأقدار.