فواز حداد روائي سوري يكتب بوعي المثقف ويطرح آراءه بجرأة مطرزة بدعوة للنهوض بالوعي الفردي والجمعي.. قوبلت معظم أعماله باحتفاء نقدي وتُرجمت إلى الإنكليزية والألمانية، كتب (السوريون الأعداء) وأنجز روايات سياسية أخرى من أشهرها: (المترجم الخائن) التي رُشحت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2009, و(جنود الله) التي رُشحت في عام 2011 للقائمة الطويلة. كما قدم (عزف منفرد على البيانو) و(خطوط النار) (ومرسال الغرام) و(مشهد عابر) و(الشاعر وجامع الهوامش) وغيرها.. المجلة الثقافية الجزائرية تحاول فتح نوافذه الفكرية والإبداعية في هذا الحوار:
الروائي ليس مختصاً بالأزمنة الجميلة فقط
المجلة الثقافية الجزائرية: اللحظة التاريخية العربية الراهنة رديئة جداً، فكيف تتفاعل مع هذه الرداءة/ الركاكة أثناء الكتابة خصوصاً وأن الرواية جنس أدبي قوي وجميل ولا يحتمل الرداءة؟
�فواز حداد: ليس الروائي مخيراً في انتقاء اللحظات التاريخية، جيدة كانت أو رديئة، أو تجنبها ولو كانت في منتهى الرداءة، وربما كان على الروائي الكتابة عن هذه الأزمنة بالذات والتوغل فيها، وعدم تجاوزها أو تفاديها، فالروائي ليس مختصاً بالأزمنة الجميلة فقط، خاصة وأن الحاجة إليه في الأزمنة المظلمة أكثر منها في غيرها. وربما كانت صناعة عالمنا سلسلة من اللحظات التاريخية السيئة. عموماً الروايات الكبرى، ترصد أزمنة الحروب وفجائعها، وانهيارات عقائد ودول، ألم يكن الصراع العبثي مع الطواحين الهوائية، الكاشف عن زمن سيء؟
لا ننسى، أنه مهما اشتطت الرواية في الكشف عن الجرائم والبشاعات والفظائع، لا تركن إليها، ولا تستسلم لها، ولا ثمة اعتقاد بأنها النهاية، بل بإمكان البشر التصدي لها، والتغلب عليها، وإلا استمر العالم كما هو في حالته الأولى. هذا ما يشكل فعلاً الأدب الجميل الذي يلفظ الرداءة وينهض على حطامها.
المجلة الثقافية الجزائرية: تشريحك للحالة السياسية في (السوريون الأعداء) يقودنا إلى السؤال المباشر: كيف يمكن تحقيق الحرية والعدالة والكرامة في مجتمعاتنا ضمن آليات مدنية سلمية تهزم الاستبداد ولا تتداخل فيها القوى الخارجية؟
�فواز حداد: الاحتجاجات التي عمت الكثير من البلدان العربية، كانت عناوينها الكبرى: الحرية والعدالة والكرامة، اعتمدت آليات مدنية سلمية، لم تلجأ إلى العنف، الأنظمة بادرتها بالرصاص والقنابل. ما يجعلنا نعتقد ألا حلول سياسية مع الأنظمة، ولا بد من إسقاطها بقوة السلاح. تجربة الربيع العربي أكدت بطلان هذا الاعتقاد، من واقع أن الأنظمة هي التي تمتلك الأسلحة الخفيفة والثقيلة والطائرات والصواريخ والأسلحة المحرمة دولياً، تساعدها أجهزة أمنية تعتقل وتقتل دونما مساءلات، يضاف إليهما عدم توافر ممانعة دولية جدية ضد القمع، لا أكثر من تصريحات عالية النبرة تنخفض مع الوقت حتى تتلاشى.
�في المثال السوري الدليل الأقوى، فالحرب المستمرة منذ ما يزيد عن سبع سنوات، وقاربت أعداد ضحاياها المليون، والنازحين بالملايين، تحت أنظار العالم، لم تفلح في إسقاط نظام مجرم. ما يؤكد عدم إمكانية الحل المدني السياسي. حالياً ولو فات الأوان، يستحيل إنقاذ هذه الشعوب من الاستبداد. إلا في حالة انتقال المجتمع الدولي من التهديد إلى الفعل، وتحمل مسؤولياته في منع الظلم، والعمل على إحلال العدالة والقانون في كل بلد. وإلا استمرت الدكتاتوريات تتحكم ببلدانها عقوداً أخرى، وربما أكثر. طبعاً هذا الحل مثالي، لكنه خيالي، فالمجتمع الدولي لا يملك أمره مادام مجلس الأمن يتحكم بقراراته، والديمقراطيات لا تهتم إلا برفاهيتها. يقع العبء الأكبر على الشعوب، والموت الأكبر عليها، ريثما تظفر بحرياتها.
المجلة الثقافية الجزائرية: مشروعك الروائي مدخل مهم للتعرف على الواقع السوري بكل تناقضاته وإسقاطاته الفكرية والحضارية، ما الذي تسعى إليه وأنت تحفر في الواقع السوري: الدفاع عن (الربيع العربي)؟ كتابة التاريخ بلا “أوهام”؟ أم قراءة الحدث قراءة نقدية موضوعية؟
�فواز حداد: مشروعي الروائي لا يستثني هذه الأسئلة جميعها، كان الربيع العربي أهم حدث ضرب المنطقة بعد استقلال أغلب البلدان العربية، وبشر بتحولات جذرية، وكانت انتكاسته بفعل داخلي وخارجي، ففي سورية أصبح الوضع معقداً إلى درجة يمكن القول إن الربيع هزم تماماً، ولن تكون له قيامة، من فرط تشابكاته، بعدما نحا المحتجون إلى طلب بعض الإصلاحات، فإذا بالبلد تقع تحت أربعة احتلالات، وانتقلت من نظام دكتاتوري إلى نظام لا تعرف هويته، فقد السيطرة حتى على الأرض التي يقف عليها، وبدأ يخادعنا بانتصاراته.
في دفاعي عن “الربيع العربي” كان لا بد من إبراز أنه كان للسورين الحق في الثورة، وهذا ما استدعى قراءة الحدث بموضوعية والجواب على سؤال لماذا كانت الثورة ضرورية، بل وحتمية؟ ما أدى إلى استرجاع نحو نصف قرن من حكم العسكر، توج بدكتاتورية وراثية. بالتالي كان لا مفر من تخليص التاريخ من أوهام الصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، لمساءلة تاريخ غير مزور. الرواية دفعتني إلى تشكيل الأرضية التي سأستعرض من خلالها نحو خمسة عقود من عمر النظام، إلى بدء ربيع استُهل بالمظاهرات والاحتجاجات.
المجلة الثقافية الجزائرية: الملاحظ أنك تجاوزت هذا الواقع في بعض أعمالك كرواية (جنود الله) مثلاً، فهل يستطيع الكاتب تنحية ذاكرته جانباً في إطار مكاشفته لمرحلة سياسية، أم أن الذاكرة بحد ذاتها تحرّض على فتنة الكتابة لتأريخ اللحظات الاستثنائية داخل النص الروائي؟�فواز حداد: في الكتابة الروائية، لا يمكن تنحية الوعي واللاوعي كذلك الذاكرة، لكل منها نصيب، وإن كان متشابكاً، ولا يمكن تقدير حدود كل منها، بسبب التداخل العجيب بينها. ربما كانت هذه فتنة الكتابة وغموضها في آن، أن تكتب وتشعر رغم سيطرتك على ما تفكر فيه أنك مسير أحياناً، ويبدو وأنت تنهل من الذاكرة، وكأن هناك ما يملى عليك، وسوف يفاجئك مخزون الذاكرة بما يحتويه من ذكريات وأحداث ومعالم وتفاصيل، تظن أنك تجهلها، أو نسيتها، فإذا بها تعود بعنفوانها وكأنها تحدث الآن… إنها لحظات استثنائية تلك التي نظفر بها، ما يدفعنا إلى خوض مسالك، ربما كنا لا ندري بوجودها. إنها لحظات انكشاف مثيرة، لا توهب لنا دائماً.
المجلة الثقافية الجزائرية: لنفترض أنك كتبت (موزاييك دمشق) في العام 2018.. ما الذي ستكتبه عن انطباعات السوريين بعد كل ما عاشوه من أزمات خلال سنوات الحرب في سورية؟
�فواز حداد: أعتقد أنها ستكون استعراضاً مرعباً لعذابات السوريين من مداهمات وقتل عشوائي واعتقالات وتعذيب حتى الموت، ومشاهد من أفواج النازحين يحملون أمتعنهم القليلة وينامون في الشوارع والحدائق، والذين يجتازون الحدود هرباً من القصف، ويموتون على الطرقات وغرقا في البحر. وفي المدن، حيث تمتلئ بمئات الحواجز والجنود والشبيحة والميليشيات المسلحة، تجوب الشوارع مواكب الموالين، ومكبرات الصوت تصدح بعبادة الرئيس، والشبيحة يهتفون “الأسد أو لا أحد”، يطالبون بإبادة الأرياف المستعصية، والمحاصرة بالجوع أو الركوع… بينما الغلاء يلتهم كرامة الناس، ولا تخفي الوجوه علامات البؤس والتعاسة.
موزاييك دمشق ٢٠١٨ سيكون الإحباط واليأس، وأيضاً الناس الذين ما زالوا يفكرون كيف نتخلص من هذا الكابوس الجاثم على صدورنا. السوريون لا ييأسون.
المجلة الثقافية الجزائرية: (الضغينة والهوى) و(خطوط النار) روايتان تبحثان في صورة (الآخر) وهو من المواضيع الحساسة ثقافياً..هل تجد أن المرحلة الراهنة-بما تشهده من صراعات على المنطقة- قدمت للمثقف العربي رؤية أكثر وضوحاً حول العلاقة الإشكالية بين الشرق والغرب؟
�فواز حداد: شكّل الآخر بالنسبة إلينا، ما كنا نفتقد إليه، وكان طموحنا دائماً مشاركته المستقبل. مثلت لنا ديمقراطيته؛ الحرية والعدالة والقانون، اعتقدنا أنه لن يتأخر عن مساعدتنا. لم نخطئ في تصوراتنا عنه، وإنما هو الذي أخطأ في تصوراته عنا، جزم أننا غير مستعدين للديمقراطية، هذا الاعتقاد نابع من قرارات مسبقة وهو التدخل حسبما تمليه عليه مصالحه، لا مبادئه. لهذا لم يكن ضد الدكتاتور، لقد كان مع الأنظمة. فلم يكن وقوف العالم الغربي معنا إلا من باب الدعاية، فلم يتخذ مواقف حاسمة أبداً، مجرد أنه لا يريد الظهور كمتوحش يقتات على مصائبنا. لو أنه اتخذ موقفاً عادلاً تجاه المأساة السورية، لما اضطر الملايين إلى الهجرة.
كان الغرب أحسن صنعاً لو ساعد السوريين منذ البداية على وقف إطلاق النار، لكن تقاعسه ساعد الأنظمة على تطبيق سياساتها في الموت والخراب… وما امتناع الغرب عن تبني وجهة نظر إنسانية تجاه قضيتنا، إلا لأنها بعرفه نظرة ساذجة، عجز عن تجاوزها، حسب اعتقاده، من الواقعية بقاء الدكتاتوريات في المنطقة، لتضبط شعوبها الإرهابية، ما دام أنه ينظر إلينا كإرهابيين.
المجلة الثقافية الجزائرية: ما ورد من تفاصيل مريرة في روايتك (المترجم الخائن) حول الواقع الثقافي ووضع المثقف يجعلني أتساءل: هل مازال المبدعون قادرون –في هذه الظروف- على خلق مساحة ما لصناعة الجمال والمعرفة والفكر أم أن الكتابة أصبحت نوعاً من العبث؟
�فواز حداد: في هذه الظروف، لا شك في أن بلداننا بحاجة ماسة إلى الأدب والفن، ليست نظرتنا إلى العالم بهذه السوداوية، هناك فسحة شاسعة للأمل، وما هذا الحراك إلا لأن شعوب المنطقة تطمح إلى التغيير، ونشدان عالم لا يغفل حقائق الحرية والجمال والحب… بدلاً من هذه الشموليات الرثة، والفساد الضارب في المنطقة. لم يندلع الربيع إلا لتحقيق الحياة التي يريدها المتظاهرون وحلموا بها، وحولتها الأنظمة إلى جحيم.
الكتابة ليست من العبث، في “المترجم الخائن” كتبت عن المثقفين المرتزقة والخونة طالبي الشهرة واللاهثين وراء المناصب والمال، هؤلاء بشكل طبيعي وقفوا مع الأنظمة ودافعوا عنها. المفاجأة أن اليسار ولو كان زائفاً وقف مع الأنظمة، لمجرد أنها تدعي العلمانية، وأثبت مثقفو النظام أنهم الفطر السام في حياتنا الثقافية.الكتابة مطلوبة، وكان أوانها الفعال مع الربيع، وما زال.