الرواية مشهد عابر، ترصد حياة بطل قصتها “أحمد ربيع”، الشاب الدمشقي من أسرة متواضعة، نشأ ووعى واقع الحياة العامة، والده متدين عادي، زرع في ذهن ابنه الموقف المعادي من السلطة السياسية التي تتحكم بسوريا، هو لا يعي ما حصل من أحداث الثمانينات من القرن الماضي، والصراع بين النظام السوري والطليعة المقاتلة الإسلامية، المنسوبة للإخوان المسلمين، وآلاف القتلى والمعتقلين والملاحقين السياسيين في سوريا كلها، وانعكاس ذلك على بعض المدن تدميراً وقتلاً و اعتقالاً خاصة حماة ومدن الشمال السوري، وكيف طالت كل من عارض النظام وحتى لو لم يكن إسلاميًا.
لم يلتحق أحمد بالطلائع ولا بالشبيبة ولا بالاتحاد الوطني، وتهرّب كل الوقت من الدخول في حزب البعث، فهذه التشكيلات هي المعبر لكي يستطيع الإنسان في سوريا أن يحصل من خلالها على ميزة ومكتسبات، وإلا فهو متهم أنه معادي للسلطة، التي تتصرف وفق مقولة: من ليس معنا فهو ضدنا، إضافة لاحتمال ألّا يحصل على فرص عمل، وتبقى شؤون الحياة مغلقة أمامه كل الوقت.
تخرّج من الجامعة وجلس ينتظر فرصة عمل، وبالنهاية ساعده أحد أصدقائه بالتوظيف في إحدى الصحف الرسمية، وكل الصحف رسمية، وكلها تتابع أخبار السلطة مدحاً وإطراء، كثيرة هي المناسبات التي تمجّد بها السلطة، ذكرى “الثورة” والحركة التصحيحية و…إلخ.
أحمد يحاول ألا يشارك إلا بالحد الأدنى، وانتدب لمتابعة الشأن المسرحي وهو أقرب لأن يكون عالماً منفصلاً عن الواقع، رواده محدودون جداً، وأقلية، في البداية استهجن هذه المهمة، ثم أحبها، فهي تعفيه من الخوض في السياسة وضرورة مدح النظام، وأصبح مع الوقت مرجعاً. له رأيه ومن يتابعه في الأوساط الثقافية.
لم تدم الوظيفة له كثيراً، فقد رصده زملاؤه المخبرون الكثيرون المنبثون في كل مفاصل عمله والمجتمع عموماً، بأنه يتهرّب من المناسبات الرسمية، ولا يقدم فروض ولاء الحب والامتنان والطاعة للنظام وقادته، وسرعان ما وصلت التقارير إلى الأجهزة الأمنية، التي حسمت أمرها وفصلته من عمله، الولاء عند أجهزة الأمن يسبق كل مؤهل وإمكانية وعطاء.
عاد أحمد إلى وحدته، وفي يوم جاءه دعوة إلى المسرح، وذهب إلى هناك والتقى بفتاة ضمن ظروف ملتبسة، وتحدثا، ونصحته بأن يكون حذراً.
أحمد استغرب ذلك، ولم يعرف مما يجب عليه الحذر وكيف؟، وفي يوم جاءته إحدى صاحباته من أيام المسرح، “دنيا” إحدى الممثلات التي كان له معها علاقة جسدية دون علم زوجته، ولفترة محدودة وانتهت.
دنيا انتقلت من أن تكون فتاة مسرح بأدوار صغيرة ومتواضعة، لتكون عبر شبكة علاقة بيع جسدها، لذوي النفوذ من شبكة المهيمنين على الدولة والسلطة والمال وكل شيء، أصبحت ثرية ولها مسكن في حي راق وشبكة علاقات قوة ومصالح، جاءت إليه تذكره بالحب الذي كان، وبأنها تريده وعرضت عليه الزواج مجدداً مع بعض التعديل، لكنه رفض وذهبت. ليداهم بيته مجموعة أمن ويؤخذ لجهة مجهولة، ويتعرض لتعذيب شديد، دون أي كلمة، وأخيراً يطلب منه أن يوقع على اعتراف لم يعرف مضمونه، يوقع وهو بين الحياة والموت.
الاعتراف مضمونه أنه على علاقة مع الممثلة “دنيا”، وأنه استغل هذه العلاقة واعتدى جنسياً على أختها القاصر “دينا ” وأنها حامل منه، وعند تحويله لقاضي التحقيق أنكر كل شيء، وأنها مكيدة يراد بها تحميله وزر عار البنت وحملها الخاطئ، وطلب منه أن يختار بين أن يتزوجها لخمس سنوات على الأقل، وينسب الطفل له، وأن تستمر بحياتها عند أختها، بكل الممارسات التي كانت عليها، أو يدخل للسجن لسنوات مديدة.
أخبر قاضي التحقيق بقصة علاقته السابقة بدنيا وأنها أرادت أن تحمّله ما أصاب أختها، فهي على علاقة مع شبكة من المتنفذين وأصحاب المال والسلطة، ولا بد أن تكون البنت وقعت ضحية أحدهم، وأرادت تحميله الجرم، وتقبض الثمن من الآخر.
القاضي استدعى الفتاة، وظهر أنها أقرب للبلاهة وتحدثت كل شيء للقاضي، تحدثت عن رجل يأتي إليها كل ليلة، محملاً بالكولا والمأكولات، يتحدثون ويأكلون ويشربون ويمارسون الجنس، وهي سعيدة معه، واعترفت أن حملها منه.
تدخلت كثير من الجهات الأمنية ونائب الوزير للإسراع بإنهاء التحقيق وتحويل المتهم للقاضي “البروشي” ، الملقب يقاضي القضايا المميتة، من هو هذا القاضي ؟ ، إنه من مدينة بعيدة انتسب إلى حزب البعث مبكراً، وكان يعمل مخبراً عند الأمن، وشى بكثير من الحزبيين حوله ممن لم يؤيدوا الحركة التصحيحية، كان وراء تصفية البعض، كسب ود السلطة ، لكنه خسر احترام بيئته الاجتماعية، أرادت السلطة أن تكافئه بتعينه قاضياً في محكمة أمن الدولة، المختصة بالفصل في قضايا معارضي النظام، وهي محكمة صورية، مهمتها إسباغ الوضع الشرعي الشكلي على قرارات الأجهزة الأمنية، من قتل وسجن المعارضين للنظام، أصبح البروشي صورة عن الظلم والبطش والأحكام القاسية، وعيّن بعد صراع بين الأجهزة الأمنية وحزب البعث، وتأكد هيمنة الأمن على الحزب والدولة، قام بدوره كقاض بكل التبعات السيئة، وصار اسمه يقترن مع القتل والأحكام القاسية والجائرة، وحصّل مكتسبات كثيرة من موقعه ودوره، ولكنه وقع في خطيئة عمره عندما حكم على ابن أحد رؤساء العشائر الذي تربطه بالرئيس علاقة، وأدت إلى إبعاده من موقعه وتعيينه قاضياً في المحاكم العادية، واستمر يحمل سمة القاضي الظالم. لكن المحقق قرر في لحظة شهامة أن يقبض على المتهم الحقيقي الذي اعترفت عليه الطفلة القاصرة دينا، وفعلاً ضبط بالجرم المشهود وأدخل السجن وتم تبرئة أحمد من التهمة.
لكن من هو الرجل الذي قبض عليه؟، أنه “فالح الجادور” ضابط الأمن السابق الذي كان له حضوره وقوته ودوره أيام الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المقاتلة، والذي أصيب في إحدى المداهمات، الأمر الذي أدى لإبعاده عن الأمن، وعين رئيساً لأحد مرافئ الساحل السوري، الذي شكل له مورداً مالياً كبيراً، عبر المرفأ تمر كل الصفقات والتهريبات.
المرفأ أحد أهم رئات تنفس الاقتصاد السوري، تستفيد منه وعبره شبكة كبيرة من ممولي النظام وشبكاته الأمنية والعسكرية والسلطوية، ولكن الجادور تجاوز حده بالنسبة للمرفأ، مما أدى إلى نقله ليكون محافظاً لمحافظة نائية.
لم يكن نقل الجادور بالسهولة المتوقعة، السلطة في سوريا، تعتبر نظرياً سلطة حزب البعث، وعملياً هي سلطة الاستخبارات والأمن، والجادور منهم فكيف يتم كف يده، لكن هناك سلطة أعلى منها وهي سلطة القصر الجمهوري، الرئيس ومن حوله، حيث تتواجد العقول الاستراتيجية التي تحرك كل شيء في سوريا وتتحكم فيه.
الجادور قبل بموقعه الجديد ، وأخذ يستثمره على أحسن وجه، التوسع العمراني العشوائي، رخص البناء، وحفر الآبار، وتوسيع المناطق التنظيمية.. الخ، كل مرافق الحياة تحولت لموارد مالية كبيرة عند الجادور بحيث أصبح يتربع على إمبراطورية مالية، صار أكثر حرصاً وبخلاً، بعد تجربة المرفأ وأنه قد يفقد كل شيء في لحظة، فالمال هو أمانه الوحيد، ودائع البنوك في الداخل والخارج، سبائك الذهب، العملة الصعبة، الأدوات المنزلية المهداة له، كان يقبل كل شيء ويعيد تدويره بيعاً واستثماراً، لم يستمر حال جادور هكذا، أصيب برأسه عندما سقط عليه براد عند تفقده لمستودعه، الإصابة أدت لاختلال عقلي أعادت الجادور للمرحلة الطفلية، وعاش هذه العلاقة المرضية الجنسية مع الفتاة القاصر دينا، محملاً بالكولا والمواد الغذائية في كل ليلة يتحدثان ويأكلان ويمارسان الجنس، ثم ينسحب خفية لليوم الثاني. وهكذا تبين أن خصم أحمد في المحكمة له دعمه الأمني والمالي، بحيث تم إخراج الجادور من السجن، وعودته لحياته السابقة.
للجادور أولاد أعادوا تقسيم تركة والدهم على حياته، لكل منهم حكاية، الكبير “محروس” عشيق دنيا والمتحكم بإخوته وثروة والده المالية، استمر على رعاية والده وزياراته الليلية إلى دينا القاصرة أخت عشيقته، وأمه التي أعطيت من المال ما تعوض به عن غياب الزوج وأن تصبح وابنتها جزء من المجتمع النسوي السوري، نساء رجال المال والأعمال والسلطة المهم والمترف، الأخت التي عاشت أكثر من علاقة وتزوجت كما تحب، والأخوة الذين ضاعوا بين ترف ومخدرات.
إذن: لا أمل أمام أحمد بأن يأخذ حقه ويرد اعتباره أمام جادور وأولاده.
أخبر أحمد صديقة “جميل” المسيحي الدمشقي المصور الفوتوغرافي المطلع على خفايا وكل ما يحصل في أوساط الدولة والمجتمع، اليتيم، تربية عمات وخالات عوانس، وحيدهم المدلل، لا يترك موضوعاً عاماً أو خاصاً إلا ويبحث عنه ويصل إلى تفاصيله الكاملة، هو إذاعة أسرار متنقلة، يعرف أخبار المجتمع المغلق لرجال السلطة والمال والأعمال، الصفقات والفضائح وكل العيوب، ويتبرع ببثها حيث يتواجد، وقع أخيراً في يد الأجهزة الأمنية لقد تجاوز حده فقد اقترب من موضوع صديقه وصاحبته السابقة دنيا وصاحبها محروس ابن الجادور، كان لا بد من تأديبه بقضية يسجن فيه سنوات طويلة، احتجزه الأمن وعذبه ونسب له تهمة مساعدة الجماعات الإسلامية وأودع السجن، لكن عماته وخالاته تحركن في كل الاتجاهات لإنقاذ ولدهم، وصلن للقاء قادة الكنيسة الروحيين، ولم ينجحوا بإنقاذه، لكن مجيئ البابا حينها إلى سورية ومحاولتهم رؤيته، دفعت الأجهزة لأن تفرج عنه ويعود إلى حياته، وكأنه عاد من الموت.
جميل يقترح على أحمد أن يلجأ “لأم راما” زوجة الاقتصادي اللامع “عبد الحميد الصطوف” الرجل الذي عمل في الدوائر الاقتصادية العليا للدولة، وكان عقلها الموجه، اكتسب من مواقعه المهنية، تجاوز فقره وضيق حاله من بيئته السابقة، ذهب لخارج القطر وعاد يحمل شهادة الدكتوراه بالاقتصاد، توظف واستفاد من الفساد و اكتشف أمره، وطرد من وظيفته، لكنه استمر مرجعاً اقتصادياً كبيراً للسلطة، تزوج من “رباب” ابنة قريته الغنية التي راكم والدها المدرس أمواله من عمله مديراً للمؤسسة الاستهلاكية، واستفاد من السوق السوداء والسرقات فأصبح صاحب أملاك ومال، وبعد سنوات طرد من عمله لكنه كان يتربع على ثروة، رباب تزوجت من الصطوف لكنها لم تقبله نفسياً، إحساسها بتفاوتها عنه، غناها وفقره، لكن سرعان ما سوف يصبح ثرياً وله عالمه الذي يعيشه، متهتك ومريض جنسياً، وهي أنجبت منه راما وأختها، وأرادت أن تبني لها مجدها المالي وتصبح صاحبة أعمال، فقد اعتمدت على شبكة علاقات السلطة، ودخلت للعالم السري للمجتمع والسلطة وشبكات النفوذ، وصارت صاحبة كلمة وحل وربط، تستخدم نفوذها، وتزيد من قوتها المعنوية والمادية.
ذهب إليها أحمد وبدأ بشرح قضيته، وعندما علمت بأنه من دمشق طردته وقالت له: اذهب أنت من دمشق لا تحتاج مساعدة. أم راما أو رباب كانت تعمل لبناء مجدها وإمبراطورتيها الخاصة، وفي الوقت الذي تزدري به زوجها، وحين أصبحت ممتلئة مالاً وجاه وسلطة، أحست بحاجة للحب لتحصل على الخير كله، أحبت أحد أصحاب المحلات الدمشقية، وصارت تتردد عليه، وهو التقط اهتمامها به، وبدأت بينهما علاقة تحولت لحب عاصف، استمر لأشهر، أرادت أم راما أن تحتكره لنفسها، وأن تطلق زوجها وتتزوجه، أما الشاب فقد تجاوب معها في البدء، فأغلب العلاقات تبدأ بشغف وتعويض عن أزمة ما وتنتهي بعد حين، إلا أم راما فقد أرادت أن تستعبده تحت اسم الزواج، مطاردة بالليل والنهار، مراقبة ، تشكّك، صراع، غيرةٌ لا حل لها. فما كان من الشاب إلا أن باع ما يملك وهرب لأوروبا، وحقدت أم راما عليه وعلى الدمشقيين، ولم تنسه أبداً، لذلك طردت أحمد دون أن تساعده.
وفي موسم مسرحي قادم سيلتقي بذات الفتاة في المسرح وعبر دعوة مجهولة، تتحدث معه، وتدفعه أن ينسى ما حصل معه، وأن يعتبره مجرد مشهد عابر في حياته، ويفكر بالأمل والمستقبل، يتركها ولسان حاله يقول: لا أمل ولا مستقبل .
هنا تنتهي الرواية.
وفي تحليلها نقول: تأخذنا الرواية في أسلوبها السردي الأقرب للحيادي، وكأنه يتكلم عن المريخ وليس حياتنا ومجتمعنا وعارنا نحن، السخرية السوداء، الشفافية، المباشرة، الغوص عميقاً في كل التفاصيل لتكتمل صورة الخراب المجتمعي العام: سلطة تهيمن عبر شبكات حزب البعث والأمن والجيش والمتنفذين على كل مفاصل الحياة ، لا حياة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية إلا من صنعهم ومن أجل مصالحهم، ونحن الناس الشعب الأفراد، مجرد أدوات وبيادق على رقعة النظام يلعب بنا كيف يشاء وأنّى شاء، كل شيء تحت السيطرة ويخدم ثلة الحكم، راعية الفساد والاستبداد والقهر والتخلف وإعادة تدوير المآسي الحياتية جميعها.
الرواية نشرت عام ٢٠٠٧. والثورة السورية حصلت في ٢٠١١. إنها من إرهاصات الثورة، حيث تقول الرواية: إن هكذا واقع لا بد أن تؤدي ظروف الحياة به ليثور الشعب ويسقط كل أسباب هذا الظلم المهيمن. وهذا ما حصل فعلاً.