تضربُ الدول الشمولية ستاراً حديدياً حول بلدانها، بزعم حماية شعوبها من تأثير الأفكار المسمومة القادمة من الخارج، أي أنّ الخارج متهم بتصدير السموم، وكأن هناك معامل أفكار مشبوهة تجري صناعتها وتصديرها، وهو ما يحلو للدول الشمولية ادّعاؤه، بينما هي طريقة حياة، ونظام دولة، وإذا كانت مسمومة فلا شك أنها ستصيب بلدانها أولاً.

أفلح الستار الحديدي في روسيا خلال الزمن الشيوعي، لم تتمكن في اختراقه الأنظمة الامبريالية ولا الجواسيس، بقي النظام البلشفي صامداً طوال سبعين عاماً، واكتسب بعد ثورة أكتوبر مرتبة القداسة فجرى تحنيط جثامين لينين وستالين وأقيمت لهم التماثيل داخل الاتحاد السوفييتي وخارجه، وانتشرت عبادة الفرد، فمن يتجرأ على شتم الدكتاتور، قداسته لا تمس.

لم يسقط النظام الشيوعي إلا من النخر الذي أصابه في الداخل، حاول الروس إنقاذ نظامهم فلم يفلحوا إلا في دفنه، لكن الورثة سرعان ما سقطوا في قصة الزعيم المنقذ. فجرى تدشين لقب الزعيم الأوحد، وباتت البلد على درب عبادة الفرد، والنظام الحديدي استعاد مكانته وفي سبيله لبناء الستار الحديدي، أمّا المؤهلات فعودة روسيا دولة قوية تشن الحروب في الخارج، والتحالف مع دكتاتوريات قائمة، وحماية دكتاتوريات على وشك السقوط. استعادت روسيا سمعتها وعلى وشك أن تصبح القطب الثاني، وما الحرب الجارية في أوكرانيا إلا بهدف استرجاع ممتلكاتها السابقة.

ويمكن القول حتى بحسب مراقبين غربيين، أن الرئيس بوتين هو الذي صنع هذا الفارق، من دولة كادت أن تنضم إلى العالم الثالث، إلى دولة بدأت تسترد أمجادها القيصرية. فالقيصر سلطته مطلقة، القيصر لا يُنتقد. يشن الحرب ولا يستطيع مسؤول في جهاز الحكم معارضته، لوحق المعارضون إلى الخارج واغتيلوا بالسم، أما الذين في الداخل فأودعوا السجون.

تبدو الدول الغربية بالمقارنة مع روسيا الحديدية، دولاً ضعيفة مائعة تافهة، بالنظر إلى رؤسائها، فالشعب غير راض عنهم من فرط ما يسخرون منهم، حتى إن رجل الشارع يستطيع رمي البيض على الرئيس أو رشقه بالحبر وشتمه، ولا توفره الصحافة من انتقاداتها القاسية.

غالبًا ما يتهم الأميركان دولتهم بأنها دولة فاسدة مصابة بسوء الإدارة والفساد والتمييز العنصري، مع ميل إلى وصف الرئيس بالمجرم أو المعتوه أو كليهما. لم يفلت من هذا النعت رؤساء تاريخيين مثل “أندرو جاكسون” و”إبراهيم لنكولن” و”فرانكلين روزفلت”.

أما سلسلة الرؤساء الحاليين فلم ينجُ أحدٌ من هذه الأوصاف التي باتت شائعة، أضِفْ إليها اتهامات عرّضتهم للمحاكم، فمكتب التحقيقات الفيدرالي اتهم الرئيس الأميركي بيل كلينتون بإقامة علاقة خارج نطاق الزوجية، عام 1998. وشهّر به في الصحافة، رفعت المسألة إلى مجلس النواب، لكن مجلس الشيوخ برّأه، أي أنه خضع للمحاسبة، ولم يعفِه منصبه من المساءلة والسخرية والشتائم المقذعة.

كذلك الرئيس أوباما بما أن أمره يعنينا، الذي رفض إرسال قوات برية إلى سوريا، وتحجّج بأنه لم يكن مقتنعاً بفكرة أن تقديم مزيد من الأسلحة للمقاتلين من شأنه أن يؤدي إلى الإطاحة بالرئيس الأسد. وُجّهت إليه انتقادات حادة في الولايات المتحدة وخارجها، لم تغفر له اعتراضه على عدم شن غارات جوية لدى استخدام النظام أسلحة كيميائية من شأنها أن تسفر عن تأثير حاسم. رأى فيها مراقبون موقفاً سلبياً وانتهازياً لترضية إيران وإنجاح الاتفاق النووي، كذلك “ترامب” المجنون، والرئيس الحالي جو بايدن المسكين.

يمكن لمنظريّ سياسات الدكتاتوريات الزعم أن رؤساء الديمقراطيات لا كرامة لهم، لأن الرئيس يمثل الوطن، وهي أكذوبة مضللة. فالرئيس لا يزيد عن موظف كبير على أعلى المستويات، يحظى بغالبية انتخابية، لكنها لا تمنحه الحصانة من النقد. ولا شيء يعفيه من المساءلة، ولا تغفر له أخطاؤها فكيف بجرائمه؟ وبما أن الشعب قد انتخبه، يحق له توجيه اللوم وما يزيد عنه إذا أساء تمثيله.

يدرك رؤساء الدول الديمقراطية أنهم عندما يترشحون للرئاسة، سيصبحون تحت رحمة الإعلام وسطوته. ويحاولون ألا يفوزوا بقدر كبير من الانتقادات، ويستطيع صحفي أن يحرجه بالأسئلة، لكن لا يمكن تصوّر، إقدام صحفي محلي في أرض العرب على سؤال ولو كان تلميحاً يسأل فيه الرئيس عمّا إذا ارتكب خطأ في سياساته. وإذا كان صحفي عراقي قد رشق الرئيس بحذائه، فالرئيس كان الأميركي بوش، وإذا نالت الصحفي عقوبة، فلم تكن تعليقه بحبل المشنقة، وإذا كان قد سُجن فلأن الحاكم العراقي أحسّ بالتقصير نحو الرئيس الأميركي.

في العالم الثالث الذي يبالغ في كل شيء، هل يستطيع أحد أن يوجه اتهاماً لرئيس مجرم. في حين يرى الموالون أنه الأجدر بالمحبة، إن لم يكن بالعبادة. تكرس له عشرات التماثيل وملايين الصور، بجهود مخلصة من الحزب والمخابرات والأعوان المُرائين، بينما أقبية التعذيب والتحقيق وقواويش السجون خُصّصت لكل من يعارض أو يعترض. هذا هو النظام القوي، يؤمن بالرئيس إيماناً مطلقاً، مهما بلغ من الشرّ.

ما يجب أن نعرفه أن منع ازدراء الرؤساء والقادة، شرط أساسي لترسيخ الطغيان. الرئيس والقائد، مثلما جاء بهما الشعب، يذهب بهما الشعب.. أي لا حصانة لموظف مهما علت مرتبته