فواز حداد: الروائي السوري الذي كتب الكثير من الروايات التي تواكب الواقع السوري عبر قرن تقريبا، يعتبر نفسه، عبر كتابته الروائية، أمينا على ما يحصل في سورية، وهذا التزام أخلاقي وعملي جعله سجل أدبي روائي لسورية، تتطّلع عليه فترتوي من ماء المعرفة عن سورية، تثق أنك أمام ذاتك السورية مجسدة بكل نضج ووعي ومسؤولية.
في روايته الأخيرة تفسير اللا شيء، لم يخرج فواز حداد عن ذات البحث في مضمون الواقع السوري، لكن لكل رواية مدخل مختلف، مدخله في هذه الرواية، هو الحب، والمفكر والمثقف والسياسي والعلاقات المجتمعية، كل ذلك بحركية تستحوذ على النفس، كل ذلك وخلفية الحدث وواقع حياة الشخصيات ما حصل ويحصل في سورية، ثورة الشعب، النظام الاستبدادي المجرم، الشعب الضحية.
تسير الرواية على لسان الراوي بشكل خطي في البداية، الراوي يتحدث عن حب بين صديقه المفكر صاروف، وحبيبته التي ستصبح زوجته سهير، والراوي ثالثهما.
المفكر صاروف الذي يعيش في عالم أفكاره، منظر ومفسر لما يصير حوله، في سورية وثورتها، يفتح بيته لاستقبال المريدين والمتابعين لأفكاره، ومنهم سهير تلميذته، التي سيحبها ويتزوجها بعد ذلك، صاروف تلتبس عليه الأحداث والثورة السورية، مجموع الأطروحات النظرية عنده لا تستطيع أن تفسر الحالة، ينهمك بالتنظير للظاهرة، أكثر من معرفتها والتغلغل في فهمها والتعلم منها، كما أنه يعيش هاجس الأمن وما قد يحصل معه إن هو تعاطف مع حراك الشعب والثورة، مارس التقية والصمت والتهكم، وصار ضدها بعدما تأسلمت وأصبحت مسلحة، وأعلن أنه كان معها أيام المرحلة السلمية.
تقلبات صاروف الفكرية والنفسية معها لم تعد تعجب زوجته سهير، لذلك تغادره وتطلب منه الطلاق. وهذا ما جعل حياة صاروف أقرب للجحيم، لم يستطع تقبل أن تتركه زوجته سهير، ورفض كل أشكال الوساطات لطلاقها، وحتى تدخل صديقهما المشترك الراوي، ووصلت إلى مرحلة الادعاء أنها تحس به في علاقتهما الجنسية وكأنه والدها في جماع محارم، وأنها تحب صديقا له وأنها ستتزوجه لاحقا.
كل ذلك يدفعه لليأس منها وتطليقها، وبالفعل يطلّق صاروف سهير، التي كانت لم تنجب بعد مضي سنوات على زواجهما، واكتشفت أن السبب كان من زوجها، فقدرته الإنجابية ضعيفة، لذلك قررت تركه لعلها تعاود الزواج ثانية ويكون لها فرصة الإنجاب.
صاروف دخل في تحولات نفسية مختلفة كادت أن تصل به للجنون، ودخل في حالة أسماها إحساس اللا شيء، مغادرة الحياة من خلال العيش على هامش الهامش مكتفيا بما يجعله مستمرا بالعيش كطعام وشراب، مع استقالة تامة للعقل والفكر، إنه موت مسبق وعيش العدم قبل الموت والعدم واقعيا.
سهير تدخل في علاقات عدة لعلها تجد من يكون كفؤا ليكون زوجها المستقبلي، تتعرف على ماهر ذلك الفنان الذي بدأ رحلته الفنية متواضعا، ثم لاحق المدارس الفنية المختلفة، واعتمد على رسم جسد المرأة معتمدا على جسد زوجته، التي وهبت نفسها لأجل إبداعاته، كان يسوق لوحاته ويجني منها مالا يعتاش به، كان وزوجته في فرنسا واستفاد من مدارس الفن، كل الصرعات التي استطاع أن يعتاش من خلالها، عاد لسورية مع زوجته، وتعرف مجددا على سهير الموظفة في وزارة الثقافة، كان بحاجة لها، علم بطلاقها، فكر أن تكون وسيلته في سورية لصناعة مجد يرغب به، ووجدت سهير به ما يجعله زوجا قد يكون أبا لطفلها.
لم تنجح هذه العلاقة لان زوجة ماهر التقت بسهير وأخبرتها، عن واقع ماهر وانتهازية، وأنه يحاول استغلال سهير ولن يطلق زوجته ولن يتزوج منها. مما دفع سهير لتتركه وتلغيه من احتمال الزواج.
هذا في الوقت الذي كان فيه صاروف يتابع ما يحصل مع زوجته السابقة ويوغل في عدميته ولا شيئيته، وزاد في ذلك أن حاول الانتحار برمي نفسه أمام عربة مسرعة، لكنه لم يتأذى ولم يمت.�الراوي حاضر في كل ذلك تزداد علاقته متانة مع سهير، كما أن سهير لا تتصرف أي شيء دون العودة إليه. ارتاح الراوي كما صاروف بتخلي سهير عن فكرة الزواج بماهر. لكن سهير عادت مجددا تخبر الراوي عن المنظّر السياسي سالم وأنهما اتفقا على الخطوبة والزواج.
الراوي يعرف ذلك السياسي ويكرهه، يعتبره مدع سياسي، مريض ذاتيته، متعال، يرى ما يحصل في سورية عبث بعبث، ولا مستقبل له، يسفه كل ما يفعله الثوار، ويرى أن المستقبل للقوة المتحكمة في العالم التي تريد أن تعيد النظام مهيمنا، وتريد أن تكتب تاريخا على مقاسه، وأنها ستمحي مآسي الشعب السوري وتضحياته، لا ملايين المشردين ولا القتلى والمصابين والمدن المدمرة قادرة بتوثيقها أن تفعل شيئا. كان منظرا للخراب وقبول الأمر الواقع والسخرية من الناس وثورتهم وتضحياتهم.
كان الراوي حريصا على عدم زواج سهير من سالم المدعي السياسي. كان الراوي يبحث عن وسيلة يكشف بها هذا المدعي لسهير لكي لا تتورط بالزواج منه. جاء الحل من صاروف الذي سمع حديث سالم في منزله وهو متلبس في عدميته ولا شيئيته. حيث غادر صاروف منزله واختفى. بحث الراوي وسهير عنه ليكتشفوا أنه موقوف في أحد الفروع الأمنية. وأنه متهم بالإرهاب وأعمال تخريبية، لقد تنقل في أكثر من فرع وحمل الكثير من التهم، وتعذب كثيرا في التحقيق.
حاول الراوي مع سهير مع كثير من معارفهم أن يشرحوا حالة صاروف، وصلوا للقاضي الذي وعدهم خيرا. لكنه حكم عليه بالإعدام، والسبب أن صاروف اعترف بكل ما نسب له من أعمال تخريب وإرهاب، وأعدم بسرعة في سجن صيدنايا، ودفع الراوي وسهير رشوة للحصول على الجثة.
أمام الجثة اعترفت سهير بحبها للراوي. الذي كان قد ضبط نفسه متلبسا بحبها سابقا، وأنهما التقيا على صاروف ومعه، وأنه كان أشجع منهم، وخرج من عدميته ولا شيئيته، وواجه النظام ليموت طوعا. وأنهما، الراوي وسهير يعيشان أيضا حالة اللا شيئية والعدمية، وأنهما في سورية الحاضرة المعاشة مشاريع مقتولين وغير موجودين ومعدومي الوجود إنسانيا وواقعيا، مع اختلاف توقيت التنفيذ.
هذه سورية الآن. لم يغب عن الكاتب إنارة الخلفية المجتمعية والسياسية والحياتية لما يعيش أشخاص الرواية. سورية الثورة والشعب الضحية والنظام المستبد القاتل، والعالم المتآمر بفعله أو صمته، والنتيجة كارثة إنسانية في سورية معاشة منذ ثمان سنوات، ولا نعلم إلى متى تستمر. يضاف إليها احتلالات متعددة وحياة هي العدم بذاته.
تنتهي الرواية والراوي مع سهير بجوار جثة صاروف وحب بينهما يتم الاعتراف به.
في تحليل الرواية نقول:
ها نحن أمام لبنة جديدة في البناء الروائي لفواز حداد، سورية قضيته ورسالته ومنبع إبداعه، بموهبة أدبية مميزة، وبطريقة أقرب لتقرير حالة، سرعان ما تنغمس مع الراوي في الحكاية وتصبح جزء منها.
الموضوع الذي أشبع هذه المرة هو الحب وتصاريف الدهر معه وعليه، المرأة والرجل وخصوصية علاقتهما وقدسيتها وإشكالاتها وحلولها، منذ آدم وحواء إلى المستقبل المفتوح للإنسان في هذه الأرض.
الرواية تنير ما أصبحت عليه القضية السورية، ثورة مخطوفة، نظام مستبد مجرم، شعب ضحية، ملايين مشردين، بلاد خراب، مليون قتيل ومثلهم مصابين، سورية المحتلة ونظام يعاد تسويقه على جثة سورية وعالم شاهد على المأساة السورية وفاعل فيها.
عار سورية يجلل العالم.