يؤكّد الروائيّ السوريّ فوّاز حدّاد أنّه لا بديل للرواية، وأنّ ثقل الكلمة لا تعوضه الصورة، وأنّ آفاق الرواية مفتوحة، بوسعها مسايرة الحياة في العمق. ويصف الرواية بأنها حياة أخرى موازية، مناقضة، مضادة، تتحرك في عوالم داخلية وخارجية، وأنّه كثيرا ما تعثر الروائيون بتجارب كانت مضيعة للجهد، وكثيرا ما نهضوا على أشلائها.
ويلفت مبدع “السوريون الأعداء” في حواره مع الرواية نت إلى أنّ الجوائز المخصصة للرواية اقتصرت على تصدير أعمال روائية لا تستحق التصدير، والتعتيم على روايات لا تستحق التعتيم. وأنّها تعمدت مؤخراً استبعاد الروايات التي أخذت جانب الربيع العربي، بحجة أن الجوائز ضد الأدب المسيس.
كيف تقيّم تجربتك مع القراء؟
تجربة الكاتب مع القراء غامضة نوعا ما، فهو لا يعرفهم، ويصعب الالتقاء معهم، أحيانا يصادفهم في مقهى أو معرض للكتاب. قد تشكل حركة مبيعات كتبه مؤشراً إلى مكانته من قبل القراء، لكن لا يمكن أن يحصل على مؤشر صحيح، إلا بعد عدة كتب، واستجابات منهم.
بالنسبة إليّ، أعتقد أنني لا أتميز عن غيري. قبل سنوات قليلة، سمحت وسائل الاتصال الاجتماعي بالتقارب بيننا، هناك من يكتب لي منهم ويستفسر عن بعض الأمور الخاصة برواياتي. هذا التواصل مشجع، تعرفت على بعض الآراء، مع الوقت، قد تتوطد العلاقة مع القراء، هذا إذا كانت الموضوعات المطروحة تهمّهم. عموما التواصل بيننا، يسهم في التعرف على بعضنا بعضاً بشكل افضل، وأن أطلع على آرائهم تجربة جيدة ومثيرة، أن يعرف الكاتب كيف يُقرأ من قبل أناس يجهلهم ويجهلونه، صلة الوصل بينهما كتاباته. بالنسبة لي ككاتب سوري، أشعر بالسرور، عندما أفاجأ بأن هناك من يتابعني في البلدان العربية الأخرى، وفي المهاجر. أمر جيد أن يكون للأدب السوري وجود على خريطة القراءة خارج بلده.
ما هي أهم الأعمال الروائية التي أثرت في تجربتك الإبداعية؟
الأعمال التي أثرت فيّ أكثر من أن تحصى، خاصة أنني لم أتقيد بقراءة نوع معين من الرواية، إعجابي ينبع من أن تكون الرواية جيدة، لست ضد الرواية الرومانسية ولا الطبيعية أو الواقعية… كل منها له مكانته في قراءاتي. أما الروايات التي أثرت في تجربتي الروائية، فلا أدري إلى أي حد، لأنني أسعى ألا أتأثر عن وعي، لئلا تضع بصمتها على كتاباتي، لكنني أعرف ومتأكد أن تجربتي الروائية قد تتأثر باللاوعي بأعمال تتغلغل في عقلي وروحي، وربما انعكست بشكل ما في كتاباتي.
ما الرواية التي تتمنى لو كنت مؤلفها؟
رغم أنني أعجبت بأعمال كثيرة ووقفت مذهولا إزاءها، لكنني لم أتمنّ لو كنت مؤلفها، لمجرد الشعور بأنه لا يجوز السطو عليها، بأسلوب ملتو.
هل من رواية تندم على كتابتها أو تشعر أنك تسرعت في نشرها؟ ولماذا؟
ليس هناك رواية ندمت على كتابتها، أو تسرعت بنشرها، أسعي على الدوام أن تأخذ الرواية حظها من إعادة الكتابة عدة مرات والتنقيح المستمر، ولا أنشرها إلّا إذا كنت راضياً عنها فعلاً. أما بالنسبة للتسرع بالنشر، فأنا أدرك أنني مهما أعطيت الرواية من جهد، ما يزال في نفسي شيء منها، ولا أدفعها إلى المطبعة إلا لأنني أرغب بالتخلص منها، وقطع صلتي بها.
كيف ترى مستقبل الرواية في عالم متسارع يمضي نحو ثقافة الصورة؟
دائما هناك جائحة مضادة للرواية تنحو إلى تحجيمها في عالم الأدب والفن، جاء وقت وهيمن المسرح، فتحول شعراء وروائيون وقصاصون إلى كتابة المسرحية، ومنهم يوسف إدريس، اعتقدوا أنه أكثر تأثيراً، يمكن عن طريقة تثوير الناس. ثم اختلس التلفزيون كتاباً التزموا بالكتابة له، واعتقد كثيرون أنه لن تقوم للأدب قائمة، بعدما ابتلع الوقت الفائض للناس، كان الإقبال عليه جماهيريا، واكبته السينما وإن سبقته، مع أنها استفادت من الرواية في أفلامها الكبرى. قبل سنوات، شهدت المنطقة عودة قوية للمسلسلات التلفزيونية واحتكارها المشاهدة، لكن في النهاية الرواية شيء والتلفزيون والسينما شيء آخر وأفضل ما حصل أنهم تبادلوا التأثير. كما أن الصورة أثرت في الصحافة واحتلت مساحة كبيرة من صفحاتها على حساب الكلمة، كذلك المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي التي قدمت مواد سهلة وخفيفة للقراءة، لا تشكل ثقافة، ولا تقدم معرفة موثوقة، وإن أصبحت مجالا للتفريغ أكثر منها للنقاش.
لا بديل للرواية، ثقل الكلمة لا تعوضه الصورة، كذلك مساحة التعبير، وإيحاءات القراءة ليست كالسينما التي تقدم مهما تعمّدت الغموض، معنى أحادياً لا تترك مجالاً واسعاً للخيال، إنها الخيال نفسه. آفاق الرواية مفتوحة، بوسعها مسايرة الحياة في العمق. إنها حياة أخرى موازية، مناقضة، مضادة، تتحرك في عوالم داخلية وخارجية، كثيرا ما تعثر الروائيون بتجارب كانت مضيعة للجهد، وكثيرا ما نهضوا على أشلائها. لا شيء يذهب عبثاً. وكما كل فن، أحيانا ثمة ضجيج، ولا طحن.
كيف تنظر إلى واقع النقد في العالم العربي؟
هناك حركة ثقافية، وأصبح هناك مواقع جيدة لمتابعة الثقافة بوجه عام، لكنها تحفل بالدعاية والادعاء، لا يمكن أن يقيلها من عثراتها ودورانها في المكان، سوى مواكبتها بحراك نقدي جاد ومتنوع، النقاد الكبار والمهمون قلة بالفعل، بينما صحفيو المواقع الأدبية لم يأخذوا حظا جيدا من الثقافة. يستطيعون مديح أي عمل، مهما كان متواضعاً، ويستطيعون انتقاد عمل أدبي، ولو كان جيداً، بل وكَيْل السباب له، إلى حد أنه لن تقوم له قائمة. المدح والذم ليسا نقداً إذا لم يقولا لماذا؟ هذا البلاء ليس متوافرا في بلادنا فقط، بل يعج أيضا في الغرب، الفساد الثقافي جزء من الثقافة في العالم، حتى يبدو أنه لا ثقافة من دون فساد، وان كان هناك فساد من دون ثقافة.
إلى أيّ حدّ تعتبر أنّ تجربتك أخذت حقها من النقد؟
لا أعتقد أن أحدا من الروائيين أخذ حقه من النقد، هذا عائد لندرة النقاد، وضيق وقتهم عن استيعاب هذا التدفق السنوي، خاصة وهو يتراكم من عام لآخر، ولا أظن أن إعادة طبع الكتاب عدة مرات كافية للدلالة على قيمته، بحيث يستغني الكاتب عن النقد، وهو ما يعطيه قيمة مؤقتة في الوسط الثقافي، وهي ليست دائمة، ما حال هذا الكتاب لو قرئ بعد عشر أو عشرين سنة؟ هناك روائيون بمتناول أيديهم مطابع ودور نشر، يطبعون ويسوقون كتاباتهم تواكبها الدعاية، مع ضمان جهات تشتري من الكتاب مئات النسخ سيأكلها الغبار في المستودعات. إضافة إلى أننا لا نجهل ذائقة القراء، الأغلبية شعبوية.
الأمل يرتكز حاليا على المواقع الثقافية الجادة في خلق حالة نقدية ثقافية، تتجلى في النقاش والأخذ والرد. قد تكون عشوائية لكنها مع الوقت ستثمر.
كيف تجد فكرة تسويق الأعمال الروائية، وهل تبلورت سوق عربية للرواية؟
يعاني الكتاب من عدم الانتشار وهذا من سوء التوزيع وعدم امكانية تنشيطه، المانع الافتقار إلى قيام سوق عربية بمعزل عن الحدود والرقابة. تعتمد الرواية منذ عقدين على معارض الكتب، والمعارض واقعة تحت سطوة الرقابة، فيتعرض الكتاب لنحو عشرين رقابة، من عشرين بلد عربي، مما لا يشجع الناشرين على المشاركة في بعض المعارض، إضافة إلى تكلفة المشاركة في وأجور الشحن، ما ينعكس على خفض نسبة التنزيلات في سعر الكتاب، في النهاية على حساب القارئ.
لا يمكن التغلب على الرقابة إلا بإلغائها، وهي متعددة؛ أمنية دينية سياسية جنسية، عدا الحساسيات بين الدول، فقد تمنع دار نشر لأنها من بلد على خصام مع البلد المضيف، مؤخراً دخل الربيع العربي على الخط باعتباره إرهاباً، فتضاءل منع الكتب الجنسية أمام سطوة الثورات، التي اتهمت بالعمل على تغيير أنظمة الحكم القائمة، بينما كل ما طالبت به هو إجراء اصلاحات. إضافة إلى أن قائمة الحظر متبدلة من عام لآخر، فقد يصبح ما هو مسموح ممنوعاً، والعكس صحيح.
كنا نقول من قبل إن العمل الجيد يشق طريقه وحده، هذا القول صحيح، لكن بعدما تمزقت أواصر التضامن واستقرار التناحر بين البلدان العربية. لم يعد الكتاب يشق طريقه في وحل الرقابات، هذا ولم نقل بعد إن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة، ينطبق على الكتاب أيضاً.
هل تحدّثنا عن خيط البداية الذي شكّل شرارة لأحد أعمالك الروائية؟
لن أخصص رواية، وإنما بشكل عام هناك إحساس بالقلق، ربما من أمر ليس واضحاً، أو غير مفهوم، أمام الكاتب لا حل، ولا أمل إلا باللجوء إلى الكتابة، مهما يكن إنها مهنته، وما يشكل حياته. الكتابة حالة لا تعاش إلا ببناء عالم نحاول من خلاله تفسير أو فهم ما استعصى علينا، ليست المسألة فلسفية ولا سياسية أو اجتماعية أو أخلاقية فقط، يجب أن نصنع عالماً من زمان ومكان وبشر هنا يأخذ السؤال أو ما يقلق أبعاده… تلك هي الشرارة، شيء لا أفهمه أحاول فهمه من خلال الكتابة، لا يشترط أن أنجح، قد أخرج من روايتي أشد قلقاً بعدما تعرفت إلى حجم ما أنا في سبيله.
إلى أيّ حدّ تلعب الجوائز دوراً في تصدير الأعمال الروائية أو التعتيم على روايات أخرى؟
قصة الجوائز، أنها اقتصرت على تصدير أعمال روائية لا تستحق التصدير، والتعتيم على روايات لا تستحق التعتيم. وقد كتبت حولها، خاصة تعمدها مؤخراً استبعاد الروايات التي أخذت جانب الربيع العربي، بحجة أن الجوائز ضد الأدب المسيس.
فلا نتعجب. بل ونستطيع القول إنه حتى المحكمين في الجوائز، ليس من المبالغة القول إن أكثرهم لا يعرفون كيف يقرؤون رواية، أما الذين يعرفون، فتتحكم فيهم علاقاتهم الشخصية التاريخية. واليوم رغم هذا، ومن حسن الحظ، هناك حراك روائي، تمنيت لو لم يكن تحت تأثير الجوائز، ربما كان هذا هو الجانب الإيجابي من معجزة الجوائز الكسيحة، التي قلت عنها في حديث سابق أنها تمارس رقابة ناعمة، بتحديد الموضوعات المطلوبة.
كيف تجد واقع ترجمة الأدب العربي إلى اللغات الأخرى؟
الترجمة إلي اللغات الأخرى لا تعكس واقع الأدب العربي، في الواقع الغالبية العظمى من الأعمال التي ترجمت لم تشجع الغرب على الاهتمام بأدبنا، ما يترجم حالياً يُكتب لحساب الغرب، شيء ما يجذبهم، قد يكون الجنس أو الإرهاب أو الأقليات لكن من منظورهم، وليس من منظورنا، وهذا لا يمكن أن يحصل إلا إذا امتلك الكاتب ثقافة ورؤية مع القدرة على امتلاك القدرة التي تساعده على الكتابة عن هذه الأمور إذا أراد الخوض فيها… أقول كل شيء صالح للكتابة، لكن ما يعطيه قيمته هو كيفية معالجته، فإذا استعرنا نظر الآخرين لن ننجح لأننا لن نستطيع الحلول محلهم، وإن أرضيناهم. هذا نفاق. يجب أن نكون نحن، هذه حياتنا وتجربتنا… في القرن الماضي خطف الأدب الياباني، وأدب أمريكا اللاتينية، أسواق القراءة في العالم، كتبَ اليابانيون والأمريكان اللاتينيون عن أنفسهم، وليس لإرضاء العالم. هم كما هم، وليس هم من منظور الغرب. ليس علينا توخي ما يعجبهم والذي لا يعجبهم. بل نحن ما الذي نرغب في قوله وما الذي نريد التعبير عنه. بمعني ما من نحن؟
يعاني المبدع من سلطة الرقابة خاصة (الاجتماعية والسياسية والدينية) إلى أي درجة تشعر بهيمنتها على أعمالك؟ أو هل تحدّ من إيصال رسالتك الإبداعية، وهل أنت مع نسف جميع السلطات الرقابية؟
أنصح الكُتاب عدم النظر إلى هذه الممنوعات، في حال أخذت بالحسبان، فرواياتنا زائفة غير حقيقية، وعدم تقصد التركيز على الممنوعات للشهرة أو للمال، أقول أن يكتب وكفى، يكتب ما يرغب في كتاباته، لن يتعلم إلا من تجربته، ليس هناك تعليمات ولا خطة طريق، اللهم إلا أن يقرأ كثيرا ويفكر كثيراً. إذا فعلها، فمن الطبيعي أن يخترق خطوطاً وحدودا وحواجز حمراء.
السلطات الرقابية؛ سياسية بالدرجة الأولى، حتى المنع الجنسي والديني، في جوهره سياسي، تريد السلطة البقاء، فتمنع كل ما يمكن أن يقلقها. لا يمكن إحداث تقدم أو تطور وتنوير من دون إحداث أذى وضرر على الأقل لمشاعر الناس، والدخول في حرب ضد كل ما هو مستقر. السلطة تريد إبقاء كل شيء على ما هو عليه.
ما هي رسالتك لقرّائك؟
ليس لدي رسائل خاصة، رسائلي كتبي، حياتي منحتها للكتابة، وكانت رواياتي عبارة عن رسائل، أرسلتها تباعاً. كانت الرواية وسيلتي الوحيدة للتراسل.
-
المصدر :
- الرواية نت