قراءة نقدية لرواية ” الشاعر وجامع الهوامش ” للكاتب المبدع فواز حداد ، أحد ابرز كتّاب ” الناس نيوز ” وداعميها معنويا منذ التأسيس ، وهو هنا يعقب على ما كتبه الناشط السياسي والكاتب ميشيل سيروب ، وهو ايضا من أسرة ” الناس نيوز ” جزيل الشكر لهما دومًا .
آليات السرد الروائي متشابكة ومرنة، وعاملا الزمان والمكان يخدمان السرد والحكايا المتعاقبة لإنجاز تراجيديا عن المقتلة السورية. عن مقولة إما نحن أو الموت.
أعداء الحرية يستعينون بسيوف وبراميل ليبرروا الموت المجاني.
عن تقارير وهوامش مأمون الراجح، الشاعر الذي هَجرَ الشعر ليكتب روايته عن قصة حب فاشلة مع شذا المسيحية، وعن ريم التي لم يُكتب لمأمون الفوز بقلبها بعد أن تركته وتزوجت من طيار من قريتها.
الرواية عن المأساة السورية بعد الزلزال الكبير الذي أصاب المجتمع في سوريا. هل كان ربيعاً أم خريفاً ؟ أم كانت انتفاضة سلمية سرعان ما تحولت إلى الجهاد والتكفير؟ أم هي مؤامرة كونية ضد مشاريع القائد الذي أنعمَ على سوريا بالرخاء من الأزل إلى الأبد ؟
بدأت جولة مأمون والوفد المرافق له من بلدة “مغربال” عاصمة المنطقة الملاصقة للساحل والممتدة إلى الداخل، على أمل زيارة طرطوس ومنها إلى مناطق ومدن أخرى …لن يُكتب للوفد أن يُغادر “مغربال”.
تتعقد الأمور بين الجهات الأمنية والشبيحة واللواء المعصوم وأنصار القائد لتنتهي بجريمة تلو الأخرى. هل كان مأمون مُحايداً أم عميلاً؟ ولماذا انتدبته إدارة الأبحاث لرئاسة الوفد إلى مغربال؟ هل كان يُمثل الرآي الآخر؟
الناس بحاجة للحماسة والشعر بعد خمس سنوات من الصراع الدامي كما ارتأى اتِّحاد الكتاب العرب في دمشق! لتوعية الناس بحقيقة المؤامرة الكونية وطبيعة الحرب الدائرة مع الفصائل الجهادية والتكفيرية وفضح مزاعم المعارضة والثوريين! كما على الشعراء حثّ الشعب على الخدمة العسكرية ودعم الفصائل المسلحة وتعويض الجبهات المحلية بالعناصر بدلاً من الجنود المنشقين، أما أبناء المسؤولين والمتنفذين، فهم خارج الوطن أصلاً وليس المطلوب منهم إلا الاستجمام بالمال العام المنهوب.
المحور الثاني في الرواية: عن المستشار الذي يعمل جاهداً، بالتنسيق مع الإدارة، على تأسيس دين ذي طابع سياسي سوري وطني قومي شعبي أصيل، يتلاءم مع المرحلة الشمولية التي تمر بها البلاد.
دين دون إله، محاولة من المستشار المفكر إعادة الدين بالقوة والحيلة. يُمَهّد المستشار لهذه الفكرة بالتقمص، وبمحاضرة توضيحية: إن البشر قبل بدء العالم كانوا كواكب نورانية تسبح بين النجوم…يسعى المستشار على تسويق اللواء المعصوم كإمام وداعية. في اللحظة التي يبدأ المستشار فيها التفكير خارج مسار الإدارة، تقرر المحكمة الميدانية إنهاء عمل المستشار” الجرافة لا تتوقف عن تتابع التقدم، تهدم الجدران وتسوي الكتب مع الأرض يتصاعد غبار كثيف يحجب الرؤية، الجرافة تسحق كل ما يُصادفها والغبار يبتلعه لا أثر للهوامش، تحللتْ وتلاشت في الفراغ”.
الشعب السوري ليس واحد! .
تكشف الرواية زيف ادعاءات الجيش العقائدي وزيف الوطنية في جيش حماة الديار وهشاشة البُنى المجتمعية في سوريا، ليس في صفوف الموالين فقط، بل في أوساط المعارضين والعلمانيين أيضاً. الرواية تُعيدنا إلى بيت شعر لمظفر النواب ” إن الواحد منا يحمل في الداخل ضده”.
بطل الرواية مأمون سنِّي، شذا مسيحية، حسين علوي، أما عن الضباط فلا داعي لتحديد انتمائهم الطائفي، سلوكهم منسجم مع مشروع القائد الخالد ووريثه صاحب مشروع” إما الأسد أو نحرق البلد”. أما الجهاديون فهم أولئك الذين يقتلون ويُقتلون بالأحزامة الناسفة وينشدون الجنة.
في مشهد من أقسى المشاهد المرعبة في الرواية: إعدام حسين الصحفي في جريدة تشرين، والذي لم تنقذه علويته. كان يتابع قضية اتُّهم فيها ضباطٌ باغتصاب عدة فتيات وسرب حسين هذه القصة إلى منظمة حقوق الإنسان، تُركتْ جثة حسين في العراء لأمر أبعد من مُعاقبة أهله، إنها تحذير للطائفة. يحصل حسين على تصريح من الضابط الأسير” بأنه كان هُناك قرار مسبق باغتصاب النساء عند مداهمة أي بيت التحق رجاله بالجيش الحر.
صادف فتاتين صغيرتين في السن احتضنتهما امرأتين أخذتا بالبكاء ورجونه أن يغتصبهن بدلاً عن بناتهن، أمهات أردنا افتداء بناتهن”. أما شذا فتستقيل من عملها في وزارة الإعلام، لم تكنْ راضية : فساد ورشاوى وعهر ووساطات… لم تستطع أن تعمل مع أناس باتت ضدهم، ولم تُصدق مزاعم النظام حامي الأقليات.
دمشق تتحول إلى مدينة مُحتلة، تتكدس المنهوبات من المناطق المحررة في الشاحنات العسكرية، أثاث غرف النوم من ورشات “سقبا” تُنقل إلى منازل الضباط من الحرس الجمهوري. أصبحت دمشق مسرحاً للميليشيات الطائفية، ثكنة للثائر من قتلة الحُسين: حزب الله، الحرس الثوري الإيراني، الفاطميون، الزينبيون، أسود الله، أبو فضل العباس… كل تلك الفصائل كانت مُتعلقة بالحياة وهدفها النهب ولم تأتِ إلى دمشق لتنثر الياسمين على قبر الصوفي محي الدين بن عربي، جاءتْ لأغراض مذهبية.
أما فصائل المناطق المحررة : الجيش الحر، جماعات إسلامية متشددة، جماعات إسلامية مُعتدلة، مجرمون، قطاع طرق، وميليشيات مجهولة، وأخيراً داعش. كانت الفصائل تنشد الموت طالما سيفوزون بالنعيم. أهم ما يميز الرواية قدرتها على اِلتقاط مشاهد الحياة اليومية، ثمّة مشهد يُجسد الكوميديا السوداء في أحد حواجز النظام” وأشار جندي بأصبعين مُنفرجتين لامستا شفتيه ظنوا أنه يرسم إشارة النصر، ثم تنبهوا إلى أنه يطلب سجائر، فتبرعوا لحماة الديار بعشر عُلب دخان حمراء وثلاث علب من المتّه”ص30. تُثير الرواية الكثير من الأسئلة، كيف وصل الإنسان إلى هذا الدرك من الخسة؟ ومن أين تولّد كل هذا الحقد والانتقام بين أبناء الوطن الواحد؟ الرواية ملحمة أدبية عن سلوكيات النظام والجريمة للأجيال القادمة.
يقف الشعب الألماني اليوم عاجزاً عن تفسير ظاهرة النازية، كيف انساق هذا الشعب خلف أكاذيب الفوهرر، تلك الأكاذيب التي غيبتْ الوعي والتفكير لدى النخبة.
ستقرأ الأجيالُ القادمة هذه الرواية والتي ستترك أثرها في عمق الروح ولن يغفروا لنا عجزنا، وسيسألون أنفسهم: كيف لشعب عظيم صدق قائد عديم الكفاءة ساهم بدراية وتصميم على خراب البلد. ما الذنب الذي ارتكبه هذا الشعب كي تُعاقبه السماء بهتاف “بالروح بالدم، وإلى الأبد” لعائلة رهنت البلد لاحتلالات وميليشات طائفية.
ملاحظة لا بُدَّ منها: طُرح في غير مكان سؤال عن رواية”موسم الهجرة إلى الشمال”: ماذا لو كان بطل الرواية امرأة؟ وبدورنا نسأل ماذا لوكان مأمون بطل الرواية درزياً أو مسيحياً وشذا مُسلمة؟! أم لا بد أن تكون السمراء الجميلة من قومِ عيسى.
فواز حداد: روائي من مواليد دمشق عام1947 غني عن التعريف، كتبَ العديد من الروايات: موزاييك، تياترو، المترجم الخائن، جنود الله والسوريون الأعداء. رواية الشاعر وجامع الهوامش صادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر.
تعقيب الروائي فواز حداد :
إذا كان لي التحدث عن روايتي، ففي الحقيقة، الرواية صعبة ومشغولة بدقة، وأتجرأ وأقول بحرفية، لهذا تحتاج قراءتها إلى الكثير من التركيز. ولقد كان في مطالعة العزيز ميشيل التقاطات ممتازة لمفاصل هامة في الرواية.
هناك الكثير من الملاحظات العامة التي قد تسهم في اضاءة الرواية، لكنني اخترت ملاحظتين فقط، خاصة أنه لا يجوز للكاتب حسب رأيي أن يشرح رواياته.
لا يغيب عن الرواية النظر إلى الحرب على أنها في أحد وجوهها الكبرى والمدمرة أنها أصبحت حربا أهلية، ما دام أن الطوائف انحازت والقتل أصبح على الهوية الطائفية. لقد نجح النظام في أخذ طوائف ما يدعى بـ”الأقليات” إلى جانبه على أساس أنها مهددة من الأكثرية السنية.
من هذا الجانب، أنا لم أختار أن يكون الشاعر سنياً، بل النظام هو الذي اختاره وتقصده، أراد استخدامه كصاحب رأي محايد، يُعرف عنه أيضاً أنه ليس منحازاً للنظام، يريد منه النظر إلى نشوء ظاهرة دينية في مناطق الطائفة، ولم يرسل أحدا من الأقليات لئلا يتعاطف مع هذه الظاهرة، بل النظر إليها بموضوعية وتجرد. أولا كي يحكم عليها، هل هي خطرة، أم مجرد فقاعة. وثانياً وهو الأهم موافاته بما يستجد عنها من أفكار، يعود للإدارة النظر إليها فيما إذا كانت صالحة للاستثمار سواء في الحرب أو بعد الحرب.
الشاعر مثقف اضطر إلى البقاء في البلد، واستطاع أن يرى جرائم النظام، وتراجع الثورة والمد الإرهابي… انه إلى جانب الثورة وليس ضدها، وإن آدرك أخطاءها.
أما المستشار إسماعيل، فبرأيي يمثل المثقف الذي تنشد السلطة استخدامه، فهو يمتلك المعرفة التي يوظفها لتقديم خدمة للنظام، ولقد استطاعت الإدارة شراءه بتزويده بالكتب، تلك هي نفطة الضعف لديه، لو أنها لجأت إلى المال لما استطاعت شراءه. لكن هذا النوع من المثقفين، تنسى السلطة أن غرور المعرفة قد يأخذه، نحو التحايل على من استخدموه سواء اللواء أو الإدارة، وقبل أن يشتط ترسم له السلطة حدوده، أي ما تريده من الدين الجديد بعبارة بليغة هي: النظام هو الله. لكنه يعتقد أن بإمكانه العمل لحسابه عند اكتشافه صيغة الإله، فربما كان يراوغ، المهم لا يتنازل عنها، والنظام لم يعد يثق به . عندئذ كما يحدث في الواقع تقضي السلطة على المثقف بجرة قلم. (هناك حوادث واقعية).
بالنسبة إلى السؤال المطروح عن رواية “موسم الهجرة إلى الشمال”: ماذا لو كان بطل الرواية امرأة؟ أجيب، لن تكون هناك رواية.
أما سؤال ميشيل، ماذا لوكان مأمون بطل الرواية درزياً أو مسيحياً وشذا مُسلمة؟! فالجواب ليس الهدف التنويع الطائفي، إلا لأن له حضوراً قويا في ما وصلت إليه سورية، هناك زيجات ثنائية الطائفة، انفصل الزوجين عن بعضهما بعضاً. كما أن حالات الارتداد إلى الطائفة كانت ظاهرة ملحوظة ويحسب حسابها، فالطائفة تمنح شعورا بالأمان، طالما هناك مناخ من التهديد مخيم في البلد. وأقرب مثال إضافة إلى علاقات الحب، انفصمت صداقات، وأنا واحد من الذين يعانون منها، مع أن صداقاتنا لم يكن تأثير الطوائف ملحوظا فيها على الاطلاق.
أما لماذا اخترت شذا مسيحية، فربما لأنني أعرف حادثة عن قرب كنت شاهداً عليها. أما لو كانت سنية، فالاحتمال الأقرب طبعا أن ترتد إلى الطائفة.
المعنى، إذا كان ثمة اتهام في الارتداد إلى الطائفة، فهو يشمل الجميع دونما استثناء.