تتابع تجربة الكاتب فواز حداد انشغالاتها الأدبية في رصد الواقع السياسي، الاجتماعي، والثقافي السوري عبر فن الرواية. يمكن النظر إليها كفسيفساء روائية تحاول عكس التحولات، التغيرات، والأسئلة الثقافية والسياسية الملحة على واقع التغيرات والتحولات التي يعيشها المجتمع السوري، ومع روايته الجديدة “يوم الحساب، 2021” يحمل الكاتب أيضًا موضوعات وأسئلة تطرأ على الراهن السوري اليوم؛ الهزيمة والانتصار، اليأس والفاعلية، الضحايا والمنتفعين، اقتصاد الحرب والفساد، سؤال البقاء والرحيل، سؤال المنفى والوطن.
العيش بهوية ميت، شهيد!
تعتبر هوية السارد الملتبسة واحدة من أبرز تقنيات السرد الروائي المركّب، في “صورة الروائي، 2007”. ينقسم النص بين ساردين؛ السارد- المعلوم والسارد “س” نقيضه، كلاهما يتناوب على كتابة النص المقروء في الرواية، ليتقابلا في النهاية مع الروائي فواز حداد الذي يظهر داخل نصه. في “يوم الحساب” يخلق فواز حداد هوية السارد الملتبسة من ظاهرة عرفها النشطاء السوريون في العمل في ظل القمع تحت أسماء مستعارة، ظاهرة وصلت إلى العيش تحت حماية هوية ميت، فيفتتح السرد: “أنا شخص ميت، في حماية شهيد. الاسم الذي أحمله استعرته من شاب شهيد، أستخدمه بكثير من الحيطة. أنا لم أرتكب جريمة، ما فعلته تنظيم مظاهرات وبعض الأعمال الإغاثية. أتنقل ببطاقة الشهيد الشخصية، ما زال حيًا في السجلات الرسمية، بينما سقط صريعًا بطلقة قناص”.
“يخلق فواز حداد هوية السارد الملتبسة من ظاهرة عرفها النشطاء السوريون في العمل في ظل القمع تحت أسماء مستعارة، ظاهرة وصلت إلى العيش تحت حماية هوية ميت”
مصير المختفين قسريًا
تبدأ الحكاية مع وصول السورية الفرنسية المدرسة رحاب إلى دمشق، في رحلة البحث عن طالبها المفقود في سورية جورج الأيقوني، ويساعدها في محاولات البحث السارد حسان وحبيبته ريما. وعلى مستوى آخر من الحكاية يجري البحث عن المفقود ذاته من قبل والدته أم جورج، السيدة المسيحية التي تورّط راهب الكنيسة جبرائيل في رحلة البحث عن ابنها بين الأفرع الأمنية، المكاتب الحكومية، ومعارف الحلقات الضيقة للسلطة. حكاية الاختفاء القسري هي حكاية عشرات الآلاف من العائلات السورية الباحثة عن أبنائها وبناتها، لا يعرفون مصيرًا لهم/ن بين الاعتقال والاختطاف، بين الحياة والموت، بين البقاء في الذاكرة أو الغياب في ظلام الاختفاء القسري الذي تكرر الرواية الحديث عنه: “جورج غاب في الظلام”، هي العبارات التي تسمعها الشخصيات في رحلة البحث عنه.
الشخصيات المتحولة الهويات
في “المترجم الخائن، 2008” تنقسم الشخصية الأساسية في الرواية إلى ثلاث ذوات، المترجم حامد سليم، والمترجم المستعار عفيف حلفاوي، والصحافي الثقافي حلفاني، وتعيش الشخصية تهويمات تخالطها على طيلة الرواية: “إذ ينتهي مشواره مع حلفاني، يشرع في رحلة جديدة مع حلفاوي”. في رواية “يوم الحساب” تتمحور الحبكة الرئيسية في البحث عن المفقود جورج أيقوني، وهي الرحلة التي تحرّك كل الشخصيات، جورج الذي هو كما جميع شخصيات الرواية، يمتلك هوية متغيرة باستمرار، هل هو طالب جامعي فرنسي عاد إلى سورية للمشاركة في الثورة، أم أنه عميل مرسل من أوروبا؟ هل هو بطل أم خائن؟ وهكذا تتحول الهويات باستمرار، كلها هويات سياسية واجتماعية عرفها المجتمع السوري راهنًا، وطرح الأسئلة حيالها.
وبما أن الشك ميزة للمجتمعات التي تعيش تحت القمع، وسمة تسم سلوكيات المجتمعات في الحروب، فإن كل الشخصيات تحمل الشك وعدم اليقين حيال بعضها البعض. فتتراوح شخصية الفرنسية رحاب بين المدرسة العاشقة والعميلة السرية: “السؤال هل كانت الأستاذة متعاونة، أم مغرر بها بدواع إنسانية؟ وإذا كانت متعاونة، فإلى أي حد كانت متورطة مع المخابرات الفرنسية؟”، وتنتقل شخصية الأب جبرائيل بين المسيحية المتزمتة إلى الفكر الديني المنفتح ومن ثم الحامل لمقولات وخطاب نضال سياسي، وكما في “السوريون الأعداء، 2014″، فإن بنية النظام الحاكم في محور أساسي من محاور رواية “يوم الحساب”، نتعرّف عليها من خلال حضور شخصيات حكومية مجهولة الأسماء معرفة بالوظائف الرسمية التي تقوم بها، منهم حملة الملفات، مدراء المكاتب المختصة بشؤون الأقليات، الناطقون الإعلاميون بأسماء الأجهزة الأمنية أو القصر الرئاسي، هكذا يعبر القارئ في بنية الرواية عبر متاهة النظام والدولة، فالسؤال الرئيسي في ذهن أم جورج طيلة الأحداث: “ما الفرق بين الدولة والنظام؟”.
يوم الحساب الأرضي والسماوي
تفترض رواية “الشاعر وجامع الهوامش، 2017” نشأة ديانة جديدة على أيدي منظرين جدد في قرية ريفية سورية، مما يفتح أفق الرواية على حوارات حول الدين، حول الوجود والأبدية، حول الغنوصي والعقلاني، وحول الثواب والعقاب. في رواية “يوم الحساب” يحمل العنوان الأفق الديني الذي ترغب الرواية في اختلاق الحوارات حوله، تلك التي تؤدي إلى موضوعات الإنسان الكبرى، حول الحقيقة والعدالة، الدين والسياسة، الإنسان والجماعة:
“ماذا عن العدالة؟ ألا تصح أن تكون على هذه الأرض؟”
“هذه مشيئة الرب”.
“أليس للبشر مشيئة؟”
“يا ابنتي، لم تكن مشيئته وحدها إلا من تقصير البشر، كان بوسعهم ألا يكون بعضهم أعداء بعض”. يحضر يوم الحساب في الرواية في موضعين، الموضع الأول يوم الحساب هو بالنسبة للمواطن رمزيًا يوم الاعتقال والتعرض للتعذيب، والموضع الثاني حين يتم الحديث عن العدالة؛ وإن هناك يوم حساب على الأرض وليس فقط في العالم الآخر، واحدة من مقولات الرواية الرئيسية.
“حكاية الاختفاء القسري هي حكاية عشرات الآلاف من العائلات السورية الباحثة عن أبنائها وبناتها، لا يعرفون مصيرًا لهم/ن بين الاعتقال والاختطاف، بين الحياة والموت”
في النقاش عن معنى الوطن
يحضر مفهوم الوطن في مجمل أعمال الروائي، لكن في الرواية الحالية تفرد الصفحات لنقاشات مباشرة حول هذا السؤال: “ما الذي يعنيه الوطن؟” بالنسبة للشخصيات، يعكس السؤال إرهاصات حالة النزوح، الهجرة، الهروب والمنفى التي فرضت على السوريين، وبالتالي أصبح سؤال الوطن يعالج بأسلوب أكثر مباشرة: “استغربت ما الذي يعنيه الوطن؟ كانت لا تؤمن بالأوطان، قد يكون الوطن هنا أو هناك، الوطن صدفة، ولا مبرر لجعله قدرًا، لئلا يصبح مثل الموت قدرًا قبل أوانه، ليس بالوسع تجنبه”، وكذلك فإن محور العديد من الحكايات يتمحور حول العلاقة مع الوطن، الفرنسية رحاب التي تعود لتكتشف وطنها، الراوي حسان الذي يصمم على الرحيل، بينما أخته ترفض الرحيل وحبيبته ريما التي تلتزم الاستمرار في النضال، وأخيرًا صديقه سومر الذي عاد من تركيا وفرنسا لأنه فارق معنى حياته بعيدًا عن سورية، حسب تعبيره. إنها أسئلة السوريين والسوريات سواء في داخل سورية عن الرحيل والبقاء، أو خارج سورية بين اللجوء والمنفى.
التماهي مع أيقونة العذراء وابنها
غالبًا ما تحضر أنواع متعددة من الفنون في روايات فواز حداد، يحضر فن الرواية داخل النص في “صورة الروائي”، الشعر في “الشاعر وجامع الهوامش”، الفن التشكيلي في “تفسير اللاشيء، 2020”. في الرواية الحالية يحضر فن الأيقونة: “كان أبو جورج أيقوني من الذين انغمسوا في أعمالهم، وأبرع من اشتغل في الأيقونات، ورث هذه الصناعة العظيمة أبًا عن جد، كانت له مهارة اليد، وحساسية الفنان”، وذروة الاستعمال الروائي لفن الأيقونة في الرواية هي تلك اللحظة التي تتماهى فيها أم جورج الباحثة عن ابنها المجهول المصير، مع أيقونة مريم العذراء التي فقدت ابنها فداءً للإنسانية: “تسترق أم جورج النظر إلى الأيقونة التي تضم العذراء تحمل الطفل يسوع، التحفة المثيرة المتألقة بألوانها المشرقة والزاهية، نظرات العذراء المكلومة تضج بالحنان، وتثير نشوة روحية من عذابات موعودة بها، بدت وكأنها كانت على علم بما ينتظر ابنها من خيانة، وعلى علم بأنها فقدته أو ستفقده، رأته مصلوبًا، ورأته أيضًا يقوم من بين الأموات. أما أم جورج، فلن ترى ابنها مصلوبًا، ولن يقوم من بين الأموات، وربما ولا الأحياء”.
اليأس أو الفاعلية، الذاكرة أو الصمت
تنقسم الشخصيات في الرواية بين تلك التي تمثّل خطاب اليأس والشعور بالهزيمة واللاجدوى، مثل شخصية السارد حسان: “أريد الرحيل دونما التفات إلى الخلف، بات الوطن مادة للعذاب، لن أتشبث به لقاء السجن أو الموت. أُنشد الاختفاء، لا الظهور، ولو كان في تاريخ المهمشين. أنا شخص ميت، قد أحيا بعيدًا، هناك في الخارج”، والشخصيات الأخرى التي ما زالت ملتزمة بالناشطية والفاعلية، مثل ريما المتطوعة، وسومر من شباب التنسيقيات، وكذلك الأستاذة رحاب التي تشرع في تنفيذ مشروع حول توثيق حكايات وعذابات السوريين، لتنقسم الآراء حول مشروعها، كما انقسام الشخصيات حول اليأس والفاعلية، بين المشكك في الجدوى: “العدالة لن تطاول الضحايا، ستتأخر كثيرًا، وقد لا تأتي، ولن يكون توثيق العذابات سوى قصة بلا نهاية. الصمت حاليًا حقيقة آمنة ووحيدة”، وبين الذي يعتبر هذا المشروع نوعًا من الإسهام في التاريخ وحماية الذاكرة:
“هذه الآلام لا ينبغي إغفالها، إنها تاريخ”.
“لا يدفع التاريخ الناس إلى الكلام بقدر ما يدفعهم إلى الصمت، التاريخ عبرة”.
“هذا الصمت لا يترجم لحظة رعب واحدة”.
“يحضر مفهوم الوطن في مجمل أعمال الروائي، لكن في الرواية الحالية تفرد الصفحات لنقاشات حول السؤال: “ما الذي يعنيه الوطن؟” يعكس السؤال إرهاصات حالة النزوح، الهجرة، الهروب والمنفى التي فرضت على السوريين”
رفات الأجساد المتداخلة تحت التراب
من فسيفساء الديانات والطوائف في سورية، يخصّص الروائي هذه الرواية لمناقشة المسيحيين في سورية منذ الاستقلال وحتى اللحظة الراهنة، أسئلتهم السياسية والثقافية والاجتماعية منذ كتابات ميشيل عفلق إلى خطاب حماية الأقليات، وكذلك تحفل الرواية بوصف البيوتات والمهن والحارات والأماكن المسيحية في العاصمة دمشق، وتتوقف الرواية طويلًا في تفصيل العلاقة بين المؤمنين والمؤسسات الدينية والمؤسسات الحكومية والأمنية، وكذلك أثر الحرب على الفئة المسيحية من السوريين.
ليس هناك من أقلية وأكثرية، لقد شمل العنف في سورية الضحايا من كل الديانات، لقد طاول القمع كل الثائرين، وطاول الإرهاب كل المختلفين. تتجسد هذه المقولة في الرواية من خلال حكاية جورج الأيقوني المسيحي، الذي خرج في تظاهرات من الجامع، واعتبر الثورة حاجة المجتمع بأكمله، وفارق الحياة بين أيدي أصدقائه النشطاء من المسلمين، ودفن في مقبرة إسلامية. وفي نهاية الرواية، وبينما تسعى والدته إلى نقله إلى مقبرة مسيحية، يكتشف الحفار أن جسده وجسد صديقه المسلم قد تداخلا في الرفات تحت التراب: “القماش الذي لف جسد كل منهما متهتك تمامًا، بقايا الجثمانين اختلطت ببعضها، والتعبير الدقيق لحالتيهما هو امتزاج كل منهما بالآخر”.
-
المصدر :
- العربي الجديد