بين “موزاييك دمشق 39″، روايته الأولى (دار رياض الريّس، 1991) و”يوم الحساب”، روايته الصادرة حديثًا عن الدار نفسها، ثلاثون عامًا بالتمام والكمال. نشر خلالها الروائي السوري فواز حداد خمس عشرة رواية، بوتيرة رواية كل سنتين، ما يشكّل حصادًا روائيًّا وفيرًا، يتخذ من التاريخ والواقع السوريين عالمًا مرجعيًّا، ينطلق منه الكاتب، ويحيل إليه.
على أن أكثر من ثلث هذا الحصاد يتناول الحدث السوري، في العشرية الثانية من القرن الجاري، و”يوم الحساب” تندرج في هذا الثلث.
يوم الحساب
في العنوان، “يوم الحساب”، هو في المأثور الديني الشعبي ويوم القيامة، الذي تحاسب فيه كلّ نفس بما كسبت، ويشكّل رادعًا للمؤمنين به، يحول دون انزلاقهم إلى الدركات الدنيا، في الأقوال والأفعال.
وفي المتن، تختلف النظرة إليه، باختلاف الزاوية التي يتم النظر منها، فهو يوم التحقيق مع المعارضين في أقبية المخابرات، من زاوية الموالين للنظام. وهو يوم محاسبة أدواته من القتلة والمجرمين، من زاوية المعارضين له.
وفي جميع الحالات، يشي المصطلح، في العنوان والمتن، بأنّ ثمة جرائم ارتكبت، وأنّ ثمة مجرمين تنبغي محاسبتهم، وأنّ ثمة ضحايا يجب إنصافهم، على الأرض قبل السماء. وهو ما ينطبق على الواقع السوري في هذه اللحظة التاريخية بامتياز. ولعل مثل هذا الإيمان هو ما يجعل الحياة على الأرض ممكنة للضحايا، على الأقل، باعتبار أنّ الجلادين هم من يضع قوانين اللعبة ويتحكّم بها، حتى إشعارٍ آخر.
حماية الأقليّات
يفكّك فواز حداد في روايته أكذوبة حماية الأقليات التي يدّعيها النظام، لعلّ الغرب يغضّ الطرف عن ممارساته الوحشية، وهو ما ينطلي على الغربيّين، ويجعل منهم شهود زور على المأساة السورية التي لم تضع أوزارها بعد.
ويلقي الضوء، من خلال هذا التفكيك، على ممارسات النظام وأدواته التي تبدأ بالقبض على المشتبه بمعارضتهم له، ولا تنتهي بإخفاء آثارهم، ناهيك بما يحدث بين البداية والنهاية من أساليب تنكيل وتعذيب، هي آخر ممّا تتفتّق عنه العبقرية الأمنية المريضة. كما يلقي الضوء على حياة السوريين المعارضين الذين يعيشون المطاردة والتخفّي والتنكّر والخوف والقلق والذل والابتزاز والنزوح والتهجير والهجرة، في محاولة منهم للبقاء على قيد الحياة.
وهو يفعل ذلك من خلال مجموعة من الحوادث، ينخرط فيها شخوص ينتمون إلى مكوّنات متنوّعة، لا يحول تنوّعها دون تفاعلهم في ما بينهم، في إطار من وحدة الشعب، وتوحّده حول حقوقه المشروعة. وإذا سومر العلوي وحسان السني وجورج الكاثوليكي وآخرون يجتمعون تحت راية الثورة، ويشاركون في أنشطتها المختلفة، ويكون لكلٍّ منهم ثمنٌ يدفعه.
الواقعة المحوريّة
يشكّل اختفاء الشاب جورج أيقوني الذي يقطع دراسته الجامعية في باريس، ويعود إلى دمشق ليلتحق بالثورة، واقعة محورية تتمحور حولها حوادث الرواية. ومن أجل البحث عنه، يتشارك الأهل والكنيسة ورفاق النضال، كما تنخرط معهم أم جورج والخوري جبرائيل والحبيبة رحاب والثائرون حسان وسومر وريما، وتحدث على خطّي النظام والمعارضة.
على أنّ المفارق، في هذه العملية، هو أنّها تتأخّر خمس سنوات عن موعدها، وتتم بمحرّك خارجي، يتمثّل في عودة رحاب، الأستاذة الجامعية الفرنسية من أصل سوري، إلى دمشق للبحث عن طالبها المختفي، ذلك الذي تدرّجت في علاقتها به من أستاذة إلى أم إلى حبيبة. ولعلّها جاءت تبحث عنه بدافع من هذه الصفة الأخيرة، فالحب يصنع المعجزات. أمّا لماذا تأخرت خمس سنوات على القيام بمهمتها فهذا ما لا تجيب عنه الرواية.
ويشكّل الطلب الهاتفي الذي يتلقّاه حسّان، راوي الرواية، من صديقه المقيم في فرنسا، لمساعدة رحاب في مهمتها، حجر الدومينو الأوّل الذي يسقط في الرواية لتتبعه الحجارة الأخرى في السقوط تباعًا، وعلى فترات متقاربة.
حسّان، المنخرط في أعمال الثورة، المطارَد من الأجهزة الأمنية، والمتخفّي عن الأنظار خشية القبض عليه، يخيب أمله في الثورة، ويوطّن النفس على الهجرة إلى بلد أجنبي، يستأنف فيه الحياة من جديد. غير أنّ الطلب الذي يتلقّاه من صديقه معطوفًا على رفض خطيبته ريما، المنخرطة بدورها في أعمال الثورة المختلفة، فكرة الهجرة من أساسها، يجعلانه يتريّث في تنفيذ قراره، ويجد نفسه منخرطًا في مهمة البحث عن جورج، وهي مهمة يجد نفسه في نهايتها، ويقرّر البقاء في الوطن نزولاً عند رغبة صديقه سومر الذي ينتشله من اليأس بقوله: “نحن من أجل أن نغيّر هذا كله” (ص330).
النظام والمعارضة
عملية البحث عن جورج أيقوني التي تحرّكها رحاب بدافع الحب تنطلق على خطّي: النظام والمعارضة. ويكون لكلٍّ منهما مساره ومصيره؛ فعلى الخط الأوّل، تطلب الأم المساعدة من كاهن الرعية الأب جبرائيل، فيمتنع ويتردّد ويتهيّب، في بادئ الأمر، وهو الذي له تجربة سابقة مرّة مع المخابرات، ولا طاقة له على دفع الأثمان الباهظة لهم، ولا يريد زج الكنيسة في السياسة.
غير أنّ إصرار الأم على طلبها، واستخدامها أساليب الترغيب والترهيب، ولجوءها إلى البكاء والنواح والتذلّل والاستعطاف، تضعه أمام مسؤولياته الرعوية، فينخرط في البحث عن المفقود، مستعينًا ببعض أبناء الرعية ممّن يرتبطون ببعض المسؤولين، ومعتمدًا على ما تبقّى له من سلطة دينية.
ويكون عليه أن يقابل على التوالي: الرجل المسؤول الضخم حامل الملف، وموزّع الملفات على المسؤولين، والموظّف الكبير في إدارة شؤون الأقليات، والناطق الرسمي باسم المخابرات. ويكتشف أنّ الأوّل مجرّد نصّاب محتال، والثاني لا فاعلية له، والثالث مارق ومراوغ، والرابع مجرّد دعيٍّ مغرور. هنا، لا بد من الملاحظة أن الكاتب لا يسمّي أيًّا من هؤلاء باسمه، ولعلّ ذلك يعود إلى تقدّم الدور لديهم على الاسم، فهم مجرّد أدوات سلطوية. أو لعلّه أراد أن يحجب عنهم ميزة الاسم لأنهم طالما حجبوا عنه وعن أمثاله ميزة المسمّى، فينتقم بالنص من الواقع.
في نهاية المطاف، يستنتج الخوري أن النظام لا يقيم وزنًا للأقليات والأكثريات، ولا تعنيه المذاهب والأديان، وأن همّه الوحيد هو السلطة المطلقة. ويخلص إلى أنّ حماية الأقليات مجرّد شعار مفرغ من المضمون، ويبلغ من الضحالة حدّ تحوّل الحماية إلى نوع من عدم التضييق فقط لا غير. يقول المسؤول للخوري في أحد أقبية القصر: “يجب أن تعرف بأنكم أنتم الطائفة الوحيدة المدلّلة […] وقفتم معنا، فتركناكم في حالكم ولم نضيّق عليكم…” (ص 175).
هكذا، يعود الخوري من الغنيمة بالإياب، في إشارة روائية إلى أن مقولة حماية الأقليات مجرد أكذوبة، وأن السلطة الدينية لا وزن لها في حسابات النظام.
الأمومة والوطنيّة
على الخط الثاني، يتمكّن حسان من الاتصال بصديقه سومر، المطارَد والمتخفّي والمنبوذ من بيئته، ويطلب مساعدته في جلاء مصير الشاب المفقود؛ فيجري اتصالاته، ويعود بالخبر اليقين ليتبيّن أن جورج قد استشهد خلال قيامه بنقل مواد طبية إلى مستوصف ميداني في دوما، وأنه جرى دفنه في إحدى مقابر الشيخ محيي الدين. وعلى قسوة الخبر، تطمئن الأم إلى مصير ابنها الأرضي. غير أنّها حين تشاهد فيلم الفيديو الذي يوثّق عملية الاستشهاد، وترى رفيقه أحمد الذي استشهد بعده بقليل يلقّنه الشهادة الإسلامية، ينتابها القلق على مصير ابنها السماوي في حال موته على الإسلام، وتخشى أن يحرم ابنها من الحياة الأبدية، فتهرع إلى الأب جبرائيل تستفتيه في جواز نقل رفاته إلى المقبرة المسيحية، فيفتي لها بحكمته المعهودة بجواز ذلك، لكنه يوصيها بعدم إقلاق رقاده.
وهنا، تتمظهر الأمومة بأبهى صورها، فيتعدّى قلق الأم على مصير ابنها الأرضي إلى قلقها على مصيره السماوي. على أن الأمومة تبلغ الذروة حين تقترن بالوطنية، وتتخطّى الطائفي إلى الإنساني، فحين يتم نبش المقبرة الإسلامية لنقل الرفات إلى المقبرة المسيحية، يتبين أن جثماني الشهيدين جورج وأحمد متحدان إلى حدّ يستحيل معه الفصل بينهما، ويقتضي إبقاؤهما معًا أو نقلهما معًا. وإذ تعلمها أم أحمد أنّ جورج حلّ ضيفًا على أحمد في قبره، وتخيّرها بين إبقائهما معًا أو نقلها معًا، تعدل أم جورج عن قرار النقل، وتعبّر عن ذلك بالقول: “لن أقلق رقاده” (ص 363). وهكذا، لا يفرّق الموت ما جمعته الحياة، وتتجلّى الوحدة الوطنية في سلوك الأمّين بأبهى حللها.
صورة المرأة
في السياق نفسه، تقدّم الرواية صورة مشرقة لوطنية المرأة السورية أمًّا وأختًا وخطيبةً وحبيبة؛ فأم جورج وأم أحمد تترفّعان عن الاعتبارات الطائفية، والأخت ريما ترفض مغادرة الوطن، والخطيبة ريما تفعل الشيء نفسه، والحبيبة رحاب تكتشف وطنها وتتعلّق به.
وعلى الرغم من هذه الصورة المشرقة، فإنّ تأخر أم جورج وحبيبته خمس سنوات في البحث عن مصيره ينتقص من صورة الشخصيتين، ويطرح رسم بعض الشخوص على بساط البحث.
إلى ذلك، وعلى الرّغم من النفق الطويل الذي يحفره فواز حداد في “يوم الحساب”، فإنّ بعض التحوّلات تشكّل نقاط ضوء في نهايته، وتشي بحتمية خروج الشعب السوري من هذا النفق؛ فحسّان يتحوّل من “شخص ميتٍ، في حماية شهيد”، في السطر الأوّل من الرواية، إلى “إنسان حي يباركه شاب استشهد من أجله”، في الفصل الأخير منها (ص 336)، ويقرّر البقاء في الوطن. وسومر يخاطبه بالقول: “نحن هنا من أجل أن نغيّر هذا كلّه” (ص 330). وأمّ أحمد لا تمانع نقل ابنها إلى مقبرة مسيحية. وأمّ جورج تبقي ابنها في مقبرة إسلامية. هذه الوقائع، تعكس منظورًا روائيًّا تقدّميًّا، يبشّر بحتمية الخروج من النفق الطويل، ويجدّد الإيمان بقدرة الشعب السوري على تحقيق أحلامه المشروعة في الحياة الحرّة الكريمة. وبمثل هذا المنظور، تقيم رواية “يوم الحساب” في قلب وظيفة الأدب.