يستعير فواز حداد مفهوم “يوم الحساب” ليعنون روايته الجديدة به، لكن ثمة اختلاف بيّن في الدلالة ففي المفهوم الديني يحاسب الرب عباده وكذلك في مفهوم الدول المتحضرة وفي مفهوم الثورة يحاسب الشعب رئيسه.
أما في دول الاستبداد فإن الآية معكوسة إذ يحاسب المستبدون شعوبهم، والمستبد السوري فاق كل أقرانه بفضل ما يلقاه من دعم محلي ودولي يبدأ لذلك لم يتأخر في طرح شعار “الأسد أو نحرق البلد” وبدأ على الفور بمحاسبة الشعب الثائر فتحول الوطن إلى ساحة قتل وإجرام بفضل مضخة العنف التي لم تتوقف لحظة، مستعيناً بشياطين الأرض فكان أن حرق البلد وهجّر أهله ودمّر مدناً ومسح قرى عن وجه الأرض. وبذلك استمر يوم الحساب ما يزيد على عشر سنوات ولما ينته بعد.
وفي “يوم الحساب” يشعر الروائي فواز حداد أن الحقائق بدأت تتلون وبعضها بدأ يتغير فينبري في وجه التاريخ والمؤرخين ليحفظ للحقيقة بياضها ويجلو عنها أكاذيبهم، فنراه يتقمص شخصية المحاور الهادئ الذي يستمع إلى أدق التفاصيل من الخصم ويفندها بروية وذكاء مؤسساً لسردية مضادة تدافع عن المظلومين والمقموعين من قبل نظام استطاع عبر عشرات السنين أن يطابق بين مفهوم الدولة ومفهوم النظام ويسخرهما معاً في خدمة ما يسمى بالدولة العميقة، فأضحت مفاهيم الدولة الظاهرة والدولة الباطنة والنظام والدولة العميقة بمجملها تشير إلى كائن واحد هو الطاغية الأعلى المتربع على عرش الاستبداد. ومجموعة محدودة من حملة الملفات المختبئين في الدور الثالث تحت الأرض في القصر الجمهوري بينما تمتد أذرعهم لتطول الصغير والكبير على امتداد الوطن المستباح أمنياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً.
تعتمد الرواية إحدى شخصياتها كراوٍ مشارك في الحدث وهذا يقتضي إلقاء الضوء على هذه الشخصية، لقد أسمى نفسه “حسان” وهو مطلوب لعدة فروع أمنية بسبب نشاطاته في المظاهرات والإغاثة لذلك يتخفى ببطاقة هوية لأحد رفاقه الذين استشهدوا في إحدى المظاهرات واستطاعوا سحبه ودفنه بعيداً عن أعين الشبيحة. وصل إلى مرحلة اليأس فبدأ يفكر بالهجرة موقناً أن هذا الوطن لم يعد وطنه، يعشق ريما المتمسكة بوطنها والمؤمنة باستمرارية العمل السري فالثورة بالنسبة لها لم تنته، ترفض الهجرة وتعلن دوماً تمسكها بالعمل. ولأنه يحبها لن يستطيع التخلي عنها، كذلك يصطدم برفض أخته وأولادها للفكرة بعد خروج زوج أخته من المعتقل، يعيش حالة من اليأس القاتل والحياد تجاه الوجود، يخرجه من هذه الحالة صديق مهاجر في فرنسا يطلب منه استقبال أستاذة جامعية فرنسية لمساعدتها في البحث عن أحد طلابها، وهنا تبدأ أحداث الرواية.
فالبحث عن “جورج أيقوني” الشاب السوري الذي ترك جامعته والتحق بالثورة ثم اختفى هو في واقع الأمر بحث عن الحقيقة التي يحاول النظام التعمية عليها والحقيقة في هذا الإطار لا تتبدى في نهاية الطريق وإنما تتكشف رويداً رويدا في أثناء تنامي الحدث وخاصة خلال رحلة الخوري راعي الكنيسة جبرائيل في بحثه عن الفتى، فتسقط في البداية أكذوبة طائفية الثورة وبالضرورة أيضاً تسقط أكذوبة حماية الأقليات. فالأستاذة الجامعية الفرنسية رحاب تركت جامعتها وجاءت إلى سوريا مدفوعة بحب مكتوم في صدرها لم تبح به سوى لريما، وهذه ليست أول قصة حب بين مسلمة ومسيحي وبمتابعة حكايات أم جورج نكتشف عمق علاقات الحب بين أبناء الديانتين. ولعل المشهد الأخير في أحداث الرواية عندما تجتمع أم الشهيد جورج مع أم الشهيد أحمد عند قبر الشهيدين المشترك فتتجلى فيه أقصى حالات التوتر الإنساني وأعلى حالات التسامح الديني، وكأنما حكاية الشهيدين استعارة بلاغية تعكس دلالة العيش الأزلي المشترك، كما تعكس جوهر الديانتين.
أما ما يدعيه النظام من حماية للأقليات فيفنده النص الروائي من خلال اقتحام الخطوط الخلفية للنظام حيث يقبع مكتب حماية الأقليات في القصر الجمهوري ويديره أحد موظفي النظام ممن لا يؤمنون برب سوى قائدهم. والمكتب لا يعرف شيئاً عن جورج أيقوني الذي اصطاده قناص النظام وهو ينقل الدواء للمحتاجين.
لا تتوقف الرواية عند المفاهيم التي طرحتها وإنما تستشرف المستقبل من خلال إشارات ذكية
في رحلة البحث عن جورج أيقوني التي يقوم بها الأب جبرائيل ممثل الكنيسة يكتشف (الأبونا) عمق الفساد والهيمنة التي تمارسها الدولة بحق كل مواطن، إذ لكل مواطن ملف خاص يولد معه في اليوم نفسه ولكل قضية أيضاً ملفها الخاص وما بين حملة الملفات وبين رجال المخابرات يغيب المواطن بغض النظر عن ديانته أو أقلويته أو إثنيته، في هذه الرحلة يتأكد الأبونا بأنه لا فرق بين الدولة والنظام إنهما كيان واحد بعد أن كان يحاول جهده إقناع أم جورج بأن الدولة شيء والنظام شيء آخر.
لا تتوقف الرواية عند ما سبق من مفاهيم وإنما تستشرف المستقبل من خلال إشارات ذكية فأستاذة الجامعة الفرنسية والتي هاجرت إلى فرنسا وهي طفلة تكتشف أن هذه البلاد هي وطنها مستعيدة بذلك سوريتها وداعية لاستمرارية العمل، كذلك نجد تشبث ريما بالبقاء ورفض الهجرة رغم كل هذه المعاناة أما حسان فيستعيد توازنه الثوري بعد لقائه بصديقه القديم صديق الدراسة وصديق بدايات الثورة والذي يعمل بسرية تامة وحذر شديد. أما نقطة الاستشراف المستقبلي الأخرى فتأتي على لسان الأب جبرائيل حيث يؤكد لأم جورج أنهم سيحاسبون في الحياة الدنيا، بذلك ينتقل الأبونا من موقف المهادن السياسي الذي يريد حماية رعيته إلى الضفة الأخرى فقد كان يعيش في سردية خاصة بالنظام وأصبح على قناعة تامة بالسردية المضادة وفي صراع السرديات لا بد من الإشارة إلى أن المنتصر دوماً هو صاحب الحوار الهادئ الذكي ولو بدا للعيان انتصار المحاور الآخر الذي يستخدم البراميل المتفجرة والقنابل بدل الكلمة.