راوية «يوم الحساب» أبقى نفسه دون اسمه الحقيقي.. «حسان» قال في ما هو يمدّ يده لمصافحة رحاب القادمة من فرنسا لكشف مصير مخطوف شاب هو جورج أيقوني. «لن أذكر اسمي الحقيقي» يقول من سمّى نفسه، لأن ذلك «سيرهن مصيري لمحاكمة لن تطول لأكثر من دقيقة أو دقيقتين في سجن صيدنايا».
يعيش متخفّيا إذن، لكي ليس بقدر ما يحرص صديقه القديم سومرعلى إخفاء نفسه. ربما لأن أول الرجلين، حسّان، ترك ماضيه النضالي وراءه، موقنا أن لا شيء سيتغيّر، بعد انكسار الثورة، مهما بُذل من تضحيات. أما سومر فلم ييأس بعد، لذلك يُحتاج لظهوره، ولو للقاء عابر به، إلى استعداد وتخطيط وحذر غير قليل. حسان أكثر حرية في الظهور والتنقّل، وما يشغله لا يتعدّى انتظار الوقت لتصير هجرته إلى خارج سوريا ممكنة. الوقت الذي ما زال عالقا فيه بسبب تردّد ريما، حبيبته المصرّة على البقاء حيث هي في دمشق.
ولا شيء يدلّ إلى أن ما يقف عنده الحبيبان سينتهي إلى ما يشاؤه أحدهما، هي أو هو، ذاك أنهما لم يتقدّما في الرواية خطوة واحدة في اتجاه هذا الخيار أو ذاك.. بهذا يبدو حسان كأنه يُسلم بطولة الرواية إلى سواه، رغم أنه قدّم نفسه في بدايتها، على أنه كذلك. ربما كان جورج أيقوني، المخطوف، هو ذلك البطل، رغم أنه غائب لا يأتي ذكره إلا على ألسنة العاملين على معرفة مصيره.. أمّ جورج يصحّ لها أيضا أن تكون البطلة، تمكّنها من ذلك مواجهتها لكل ما يعترض طريقها، ومحاوراتها الجريئة مع مطران رعيّتها، وفرادة شخصيتها. المطران أيضا، المقيم على صوغ المعادلات بين الدين والدنيا والسياسة وسلامة الكنيسة، وبراغماتيته وإيمانه العميق، يستطيع أن يكون واحدا من أولئك الأبطال.
ما تتمحور حوله أحداث الرواية هو البحث عن جورج، الشاب العشريني الذي كان قد رجع من فرنسا ليلتحق بالثائرين ضدّ النظام. بين هؤلاء رحاب، معلّمته أو صديقته أو حبيبته، التي قدمت من فرنسا لأجل ذلك. الباحثون عن جورج ما لبثوا أن تشكّلوا في مجموعة ضمّت معظم شخصيات الرواية، لكن في المقابل هناك مجموعة أخرى تقف في الصفّ المواجه، بينها المسؤول في حلقة النظام الأضيق وحامل ملف المخطوفين ومسؤول شؤون الأقليات.
هؤلاء، رجال النظام، أو رجال السلطة، أو رجال الدولة، لا تُستخلص منهم أي معلومة عن الشاب جورج أين هو، هل مات أو لا يزال حيأ؟ وإن كان قد مات فأين هي رفاته؟ لكن لا كلمة واحدة تخرج من أفواه هؤلاء الذين راح المطران، متسلّلا بمركزه اللاهوتي يطلب مقابلتهم واحدا بعد واحد. يدون على الدوام كأنهم رجال السلطة الجوف، أو كأن السلطة في مكان آخر يصعب بلوغه، بل يصعب تصوّر شكل وجوده، حتى ما يعرف بالحلقة الأضيق تبدو مثل تركيبة صوَرية حيث القرارات والإجابات وكل ما يتعلّق بالسياسات تحلّق فوقها.
لكن رغم ذلك تطرح رواية «يوم الحساب» على نفسها مهمّة كشف الآلية التي يحكم فيها النظام سيطرته على مجتمعه. لسنا هنا إزاء ما يشبه سيطرة «الأخ الأكبر» كما في رواية جورج أورويل 1984، فالتمكن الاستعبادي مخترق هنا بفساد البطانة وميلها إلى كنز المال، وإن دون أن تقدّم شيئا مقابل ما تجنيه. ثم هناك الراشون، وهم الرجال المقرّبون مثل تاجر المجوهرات الذي كلفه المطران ببذل المال لشراء المعلومات.
تحرص الرواية على جعل الهيكلية التي ترسمها لما تسمّيه الدولة العميقة ممتلئة بالتفاصيل. كما لا تعوزها الصراحة لتتدخل في ما يحكم العلاقات المعلنة والخفية بين الطوائف والجماعات. أحسب أن الكثير مما تُفصح عنه الرواية، حيال تلك العلاقات بين الطوائف يجري تداوله شفاهيا، وضمن الجماعة الواحدة دائما، إلا أنه هنا مُدخل في الآلية الأعرض للتعايش مع النظام، أو الأحرى دور النظام في تقريب أو إبعاد جماعة دون أخرى، وذلك من ضمن خطاب الوحدة الوطنية، المتحفّظ عن ذكره.
في نهاية الرواية يصل البحث عن جورج أيقوني إلى نتيجة مؤداها أن الشاب قتل هو وعدد من أصحابه برصاص قنّاص، وهذا ليس عن طريق اللقاءات مع رجال النظام. سومر، الثوري ما يزال، هو الذي أسعف في الوصول إلى الحقيقة. كان جورج قد دفن، كما أعلم سومر الجميع، مع رفيقه عمر في قبر واحد. كانت الجثتان متلاصقتين إلى حدّ يصعب معه انفكاك أحدهما عن الآخر. وهذا ما أدخل أمّ جورج في سجال فقهي مع المطران حول إن كان ابنها، الذي تلا الشهادة قبل استشهاده، مسلما أو مسيحيا. وقد رافقت ذاك السجال محاورة بين أم جورج وأم عمر حول أي المقبرتين ينبغي أن يدفن فيها الضريحان الملتصقان، المسلمة أم المسيحية.
رواية فواز حداد «يوم الحساب» صدرت عن «رياض الريس للكتب والنشر» في 363 صفحة سنة 2021
٭ كاتب لبناني