(دار المحيط، أبو ظبي، 2022)
[فواز حداد روائي سوري، وقد صدرت له أكثر من خمس عشرة رواية منها: عزف منفرد على البيانو، عن دار رياض الريس عام 2009. خطوط النار، عن دار رياض الريس عام 2011. الشاعر وجامع الهوامش، عن دار رياض الريس عام 2017. يوم الحساب، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2021].
جدلية (ج): كيف ولدت فكرة الكتاب وما هي منابعه وروافده ومراحل تطوره؟
فواز حداد (ف. ح.): يستحسن الإشارة إلى أنه كتاب من سلسلة كتب تحت عنوان “أنا الرواية”، وهو مشروع عبارة عن شهادات روائية لروائيين عرب، غير مسبوق في العربية، ونادر في الغرب. بالتركيز على تجربة الكاتب الروائية في كتاب لا يقل عن ثلاثين ألف كلمة. عادة يكتب الروائي عن جانب من تجربته في مقالات متفرقة، أو من خلال حوار، أو في معرض الكتابة عن سيرته الذاتية، لكن لم يصادف أن يجري التركيز عليها فقط.
المفترض في هذا الكتاب ألا يأتي الكاتب على سيرته إلا عرضاً، وربما بقدر التصاقها بتجربته، أي الرواية أولاً. أهمية هذه الفكرة أن المكتبة العربية خالية من هكذا محاولات، أما منبعها ومن وراءها، فهو الأستاذ عبد الواحد علواني، وهو مثقف سوري، يعمل في المجال الثقافي ودور النشر. وأعتقد انه استكتب نحو عشرة روائيين أو أكثر كدفعة أولى، على أن تتلوهم دفعات.
(ج): ما هي الأفكار والأطروحات الرئيسة التي يتضمنها الكتاب؟
(ف. ح.): الكتاب محاور، عبارة عن خطوط قد يلتزم بها الكاتب أو لا يلتزم، هذا تبعاً له. وهي خطوط عريضة، تدور حول الرواية الأولى للكاتب، وتحولاته الروائية فيما بعد، ما يحيلنا إلى تطورات تجربته عبر الزمن، وطقوس الكتابة، والأسلوب والسرد، والحوار، تنويعات اللغة، الحبكة والأحداث والحوار، رسم الشخصيات، مظهرها نموها سلوكها وعيها مفاهيمها محاكمتها، العلاقة مع النقد والرقابة.
طبعا ليس من الضروري التقيد بها، من الممكن من خلال أمثلة تغطية هذه الجوانب حسبما يرتئي الكاتب، والإلحاح على بعضها، كيف يفهمها أو يفسرها. وقد لا يرى في بعضها الآخر أهمية كبرى. هذا كله عائد للروائي.
أعتقد أنها تختلف من كاتب لآخر، لذلك كتبت عنها من خصوصية تجربتي، وأعتقد أن غيري من الروائيين كل منهم كتب عنها حسبما خاض بها، خاصة أنها بالضرورة تجربة شخصية وذاتية بحتة، مهما كانت موضوعية، ما يكشف إلى حد ما، الأفكار التي تحركه والأهداف، التي يرنو إليها، وربما الأشباح التي ترافق مسيرته، كذلك كيف يفهم الرواية وكيف ينظر إلى الحياة والعالم. إنها كيف يصنع رواياته.
(ج): ما هي التحديات التي جابهتك أثناء البحث والكتابة؟
(ف. ح.): في مثل هكذا كتاب، تواجه الكاتب تحديات كثيرة، أهمها محاولة اكتشاف تجربته، فالكتابة لا يمارسها الكاتب بوعيه الكامل، ولا بقصدية متحكم بها، هناك ما يجري في داخلنا، بعضنا يعزوه إلى الإلهام، وهو تفسير غامض، يزيح عن الكاتب عبء التعرف إليها، فيظن أنه يعرفها إلى حد ربما كان كبيراً، بل ومسيطراً عليها، لكن دقائق مفاصلها، حسبما أعتقد تحدث بآلية نجهلها، تتكون وتنمو في أعماقنا، ومن فرط أهميتها، ندرك أنها مفصل هام في كتابة الرواية، وفي الوقت نفسه، لسنا على ثقة بأننا نعرفها أو بوسعنا معرفتها. لا أزعم أني في كتابي تمكنت منها، لكنني حاولت التقرب إليها، ما وسعني، رغم ما أحسست به من عجز، إنها شبه مستغلقة، قد أكون تلمست طرفا منها، لكنه ليس كافيا، ربما يوما ما سأعاود الكرة، إنها اكتشاف ليس طوعا لنا.
كما هناك تحد في مواجهة الذات. ما كان يلح عليّ كروائي عدم جواز إسباغ الأسرار عليها، لئلا أبدو كأنني أمتلك سراً لا يحوزه غيري، أو قدرة لا يمتلكها سواي، أو أنني خالق شخصيات، أو صانع أقدار، هذا تلاعب ساذج، صناعة الرواية تحتاج إلى ثقافة وخبرة وجهد والكثير من العرق، والصبر والتصميم، مع شيء ما نريد التعبير عنه. لذلك في الذهاب إلى الرواية مغامرة شاقة ومشوقة ومفتوحة بلا حدود، خاصة أن كل رواية هي محاولة لفهم الذات والعالم. في هذه المغامرة قد نخطئ ونصيب، وفي الخطأ والصواب رواية قد تكون عظيمة.
(ج): ما موقع هذا الكتاب في مسيرتك الإبداعية؟
(ف. ح.): هذا الكتاب له جانبان فهو من طرف ليس رواية، فلا نصيب فيه من الخيال أو السرد الروائي. ومن طرف آخر، علاقته وثيقة بالرواية إذ هي موضوعه. لا أدري مدى ضرورته بالنسبة إليّ، مع أنني كتبته كشأن أحسست أنه يهمني، وذلك في النظر إلى مرآتي في أعمالي واستعادة طرائق ما فعلته، مع إحساسي بأن الزمن بعُد بي عنها، لكنني وجدتها حاضرة في وجداني لم تغادره. لا سيما أنها أضافت إليّ الكثير، لقد صنعتني مثلما صنعتها.
كما لا يجب إغفال أنني عندما كتبت عنها، جهدت في توخي الأمانة، كان في ذهني قراء قد يرغبون في التعرف إلى تجربة قد يهمهم أمرها، أو لمجرد الفضول، وقد تهم الباحثين، إذ يطلعهم على نموذج ما للكتابة الروائية.
وإذا كان هذا الكتاب قد خاطب فيّ شيئاً، ففي الالتفات نحو الخلف إلى مسيرة عرضّتُها للتساؤل، وكنت راضيا عنها مع أنها استهلكت حياتي كلها، من دون النظر فيما إذا كانت قد ضاعت هباء، لكنها منحتني حافزا قويا للعيش برغم الظروف السيئة. ولقد كان في عنوان كتابي “لقد مررت من هذا العصر” مبررا لكتابة روايات شئتها أن تعبر عن عالم وحياة وزمن ومجتمع وبشر وآمال وآلام خلال فترة عشتها. لا أريد القول إنني تركت بصمة، لا مطلقا، هذا العنوان يسوغ لي القول إنني فعلت ما طمحت إليه، لم أتبينه بهذا الوضوح من قبل، في هذا الكتاب بدا جلياً لي.
(ج): هل هناك نصوص ذات تأثير خاص أو قرأتها أثناء تأليف الكتاب؟
(ف. ح.): لا ابداً، لم أستعن بشيء، عدا مقالاتي الأسبوعية في الصفحة الثقافية لجريدة “العربي الجديد” وبعض المقابلات والشهادات. وطبعا التأمل في تجربة امتدت طويلا نحو ثلاثة عقود وما زالت مستمرة.
(ج): من هو الجمهور المفترض للكتاب ومن القراء الذين تأمل أن يصل إليهم؟
(ف. ح.): المعنيون بالدرجة الأولى، هؤلاء الذين يرغبون في الاطلاع على ما يدعى عوالم الرواية، أو بعض جوانبها، فالوقت مناسب، بعدما أصبحت الرواية مهوى الشباب، واهتمام الكثيرين بها. هناك ظاهرة لم تلاحظ من قبل، مئات الروايات تترجم سنويا، آلاف الروايات العربية تكتب، دور نشر تنبت كالفطر، جوائز للرواية، معارض كتب، مناسبات، دعاية كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي… إنها جائحة عظيمة، كشفت منذ أقل من عقد عن قفزة هائلة.
كان في التعرف إلى الرواية، وانتشار قراءتها أن كثيرين اكتشفوا أن لدى كل منهم رواية في داخله على الأقل يريد كتابتها، عدا عن تحول كتاب قصة وشعراء وصحفيين إلى كتابة الرواية، ولو كان نزوة، لن تعمر طويلا، فالرواية ليست بالسهولة التي تتراءى لنا أحيانا، إذ لا تخلو من إحباطات.
هذا كتاب موجه أيضا إلى الذين يريدون أن يصبحوا روائيين، مع أنني ابتعدت في كتابي عن النصائح المباشرة، لأنني لا أعتقد بها، يخشى التقيد بها، وإنما ليعرفوا أن الرواية عمل رائع وخطير وممتع، فرصة لإدراك كم تمنحهم الصفحة البيضاء من الحرية في التعبير عن كل شيء دونما استثناء، بوسعهم الخوض في الماضي والحاضر والمستقبل، واكتشاف العالم، بكل ما فيه من عظمة وروعة وبؤس وجوع وتعاسة وظلم وفرح … وتتسع لأفكار رائعة ومارقة وغاضبة وانقلابية ورؤيوية… أقول تتسع لكل شيء حتى لأكثر الأفكار جنوناً.
كما تتيح فرصاً، تلقي عليهم أعباء، بوسعهم أن يفعلوا الكثير إزاءها… فأي نعمة هي الرواية، على ألا تتحول إلى نقمة، لمجرد الاستعراض أو المهادنة، وقد تكون مخادعة. بالتالي أتمنى ألا ينضوي الكاتب تحت أي سلطة مهما كانت، نظاما أو الانحياز إلى أيديولوجية… الرواية حرية فلا يقيدها بطموحات تافهة… الشهرة تأتي وحدها، فلا يجعلها نصب عينيه، والا اضطر إلى مسايرة أسواق الاستهلاك والحكومات الجائرة.
(ج): ما هي مشاريعك الأخرى – المستقبلية؟
(ف. ح.): مشاريعي دائما كتابة الرواية، أعكف حاليا على رواية تدور في بلدي سورية وهي جزء من المشروع ذاته عن هذا العصر في شقه السوري الذي اختلط بالعصر العالمي وبات واحدا من نكباته التي طالت أكثر من نصف قرن، وكانت الذروة في هذا الخراب المتفاقم منذ أكثر من عشر سنوات. وربما فكرت بكتابة سيرة ذاتية عن هذا الزمن. هذا إذا أسعفني الوقت. كما لدي مشاريع أخرى، ربما تحقق بعضها.
مقتطف من الكتاب: التجربة التي أخذت حياتي كلها
لا أدري إن كانت تجربتي ستبرر روايات كانت حياتي، رغم إثارتها لتساؤلات كثيرة، تهمني أكثر مما تهم غيري، على نحو، هل تستحق الكتابة؟ ولماذا كتبت ما كتبته؟ هل كانت خياراتي صحيحة؟ ليت اجاباتي عنها وافية، وإن أدركت أنها رواية أخرى تمتلئ بالمجاهيل.
أما عن تلافيف هذه التجربة وتفاصيلها الدقيقة، فلا ريب أنني غير واثق من معرفتها، وإن كنت سأسعى، وأعتقد أن عدداً غير قليل من الروائيين يعانون المعاناة نفسها، لذلك أدعها للنقاد ومتتبعي أثر الكُتاب، قد يكتبون شيئا عنها، وربما اهتم بها بعض القادمين بعدنا، إن كانت تستحق الاهتمام. ما سأكتبه هو للأحياء، قد يصلح مسوغاً لزمن عشته، انخرطت فيه، ولم أصرف نظري عنه، حاولت خلاله كتابة ما اعتمل فيه، من خلال ما طمحت إليه، وما اقتنعت به. وأن أفعل ما بوسعي في تقديم أفضل ما في طاقتي وما يفوق طاقتي، عسى تشفع لي جهدا ليته لا يضيع هباء.
تجربة كانت في بعض وجوهها، غير مكتملة، وإن كانت متخمة بحياة قدَّمت لرواياتي مادة ثرية، لم أستهن بها، وتعلمت أن بوسعي أن أكون إنساناً في زمن لم تكن هناك أية قيمة للإنسان، كما زودتني بخبرة، روضت خيالي على ارتياد آفاق منيعة، كوفئت عليها، ليس بالمال ولا بالجوائز، ولا برضى السلطات، ويجوز القول بغضبهم، وكان جزاء طيباً، لأنني كنت ضدهم. لقد حظيت بتقدير طائفة من القراء، مع أنني كتبت ما كتبته من دون أن أعرفهم، لكنني أحسست بوجودهم. كتبته كي افهم العالم والحياة، وهذا العصر الذي تحققت فيه رغبتي في الكتابة عنه بشكل روائي، ولا أدرى ان كنت نجحت فيما أردته. ما عرفته فيما بعد، أنني كنت أخوض في ما يمكن أن أدعوه مشروعي الروائي.
إذا كنت على غير دراية بالتفاصيل الدقيقة لتجربتي، فهذا ليس لأنها سرٌ غير قادر على معرفته ولا الكشف عنه، وإن كنت أحس به، ولا أدركه تماماً، يؤكد لي أن ما أجهله أكثر مما أعرفه، وإن كنت سأحاول. وإذا تمكنت من استشفاف شيء او أشياء، فلن أبخل بها.
انصرفت في الربع الأخير من حياتي إلى “الربيع العربي” وإن لم يكن ربيعاً، والأصح كان ربيعاً دموياً، منحنا أملاً مشرقاً، ووعداً واعداً. كان نضالاً مشرفاً، وأنا مسرور رغم ما اعتراني من يأس وألم، أنني شاركت فيه بكتابة عدة روايات عنه.
هذا الكتاب تمنيت كتابته من قبل، أما والفرصة تهيأت، فقد أقدمت على ما اعتبره محاولة ما للنظر في رواياتي، وربما استرسلت في الكتابة عنها، لكن في الوقت نفسه، تعمدت الإيجاز، فلم اتطرق إلى حياتي التي اشتبكت مع رواياتي، لئلا أشعر بالغبن، إذ إنها استهلكتني، رأيت العالم والبشر من خلالها، فكانت حياتي أشبه برواية آمنة، حتى أنها بدت، وكأنها لم تحدث.
-
المصدر :
- جدلية