خلفت الحرب العالمية الأولى والثانية نحو مئة مليون قتيل، وعواصم ومدنا أوروبية مدمرة، بعضها أصبح ركاماً وذكريات لا تنضب عن مآسي النزوح والجوع والفقر والاغتصاب والتصفيات الجماعية. في الوقت الذي لاحت في الأفق بوادر الصراع القادم بين العملاقين الأمريكي والروسي على وشك أن تحتدم، فارتفعت الأصوات تحذر من حرب كان وقودها جاهزاً، فالجيوش على الجبهات، والأسلحة بالمتناول، وفوهات المدافع لم تبرد بعد. بات من المرجح أن تكون ميادين الحرب الجديدة القارة الأوروبية.
خشية من أن تكون أوروبا الساحة الرئيسة للنزاع القادم بين ايديولوجيتين مدججتين بالأسلحة، أضِف إليها القنبلة الذرية التي أثبتت فاعليتها بتدمير هيروشيما وناغازاكي. تولدت مخاوف جدية من التورط في حروب مستقبلية، لن تقوم للعالم بعدها قائمة، جرى الاتفاق على تحويل الحرب المتوقعة من ساخنة إلى باردة. دُعم هذا الاتفاق بقرار صدر عن الأمم المتحدة أعلن مبدأ عدم التدخل، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأي سبب من الأسباب في الشؤون الداخلية أو الخارجية لأي دولة، حفاظاً على الحدود الجديدة بين الكتلتين الشرقية والغربية.
أوحت الحرب الباردة بالجليد والبرد القارس، لكنها لم تعنِ تجميد الحروب، كما لم تكن باردة على الإطلاق، فقد جرى إرساء مفهوم الحرب المحدودة في القارات الأخرى منعاً لتمددها خارج بلدانها، وذلك بتطويقها، مع توافر من يمد الأطراف المتقاتلة بالسلاح، حروب مهما استمرت، تضع الدول الكبرى نهاية لها في حال استنفدت أغراضها بالنسبة إليها، فجرى ابتداع تعبير عدم تهديد السلم العالمي.
طوال فترة الحرب الباردة في أوروبا، كانت ساحات الحروب الساخنة خارجها، فحدثت انقلابات وحروب أهلية واضطرابات وتدخلات عسكرية كما في أزمة كوبا، مرورا بفيتنام والدومينيكان وأفغانستان وأنغولا وغزو بناما والشرق الأوسط… الحصيلة نحو مئة حرب في العالم الثالث، وعدد من القتلى تجاوز عشرين مليوناً. لم يتضرر مبدأ عدم التدخل، مع أن التدخل لم يتوقف، بذلك تلافى الأمريكان والروس حرباً عالمية ثالثة، واعتبرت عقود الحرب الباردة، فترة سلام متوتر طويل.
بالنسبة للثورة السورية، أيدها الغرب حتى بعد تحولها إلى حرب، لكن دونما دعم فعال على الأرض، كي لا يؤدي استمرارها إلى حرب تقليدية، جيش في مواجهة جيش، رغم أنها لا تشكل خطراً على أوروبا، غير أن الحكومات الأوروبية استعانت بمبدأ عدم التدخل، وامتنعت عن مد الثوار بالسلاح للدفاع عن المدنيين، فلا مضادات للطيران، حتى بعدما استمرأ النظام إلقاء البراميل المتفجرة فوق المدنيين والمستشفيات والأفران، كما لم تقم بضغط جدي لوقف إطلاق النار، أو إنشاء مناطق آمنة، ولا حتى ممرات آمنة، ولم تعد التصريحات النارية للحكومات الغربية أكثر من محاولات مكشوفة للتعويض عن أي تحرك باتجاه حل الأزمة السورية، انسجاماً مع مبدأ عدم التدخل، على أمل نزع فتيل الأزمة.
بينما شكل مبدأ “عدم التدخل” نفسه، تدخلاً إلى جانب النظام، وفي جوهره عدم مساعدة الشعب السوري، في وقت أصبحت سورية عرضة لجملة من التدخلات إيرانية وروسية وتركية وأمريكية، إضافة إلى الدول العربية، وكل منها حسب مصالحه، ليس لتطويق الأزمة بل لتفعيلها بغية تحقيق أهدافها.
لم يكن الغرب يزجي الوعود عن عبث، وإن اتخذ موقفاً إنسانياً، كان تنديداً بالقمع الممارس ضد الثورة السلمية. كان الهدف من المماطلة، إطالة الحرب، بذريعة عدم التدخل، استغلته الحكومات الأوروبية للتخلص من رعاياها المتدينين المسلمين غير المندمجين، بالكشف عن الجهاديين المحتملين منهم، فالجهاد شكل جاذبية دينية، وحافزاً قوياً للالتحاق بدولة الخلافة، فجرى غض النظر عن رحيل بلا عوائق، كان أشبه بالترحيل، وبلا عودة، مع علمهم بأنهم سيشكلون دعماً لداعش والنصرة، لا سيما بعد تحول سورية والعراق إلى ساحة لتجريب الأسلحة الروسية. كانت فرصة أيضاً للاستفادة من التجربة الروسية، فسورية كانت موعودة بأن تكون مقبرة للشيشانيين المتمردين وغيرهم من متمردي الجمهوريات الإسلامية. في وقت أصبحت فيه سورية تتسع أيضاً للجهاديين القادمين من أوروبا، طالما سيدفع تكاليفهما الكبرى المدنيون السوريون.
أثمرت نتائج هذه السياسة من التدخل، تحت غطاء مبدأ “عدم التدخل” عن إفراغ أووربا من معظم الجهاديين على أنهم ارهابيون، بالمقابل تُركت سورية للتدخل الإيراني الروسي التركي، ما أثمر فرصة لملالي إيران، وروسيا البوتينية، لابتزاز النظام بالاستثمارات طويلة الأجل، وتركيا لإنهاء مشاكلها المتجددة مع الأكراد. كذلك الأمريكان كانوا رغم ترددهم بين البقاء أو الرحيل، قد استقر أمرهم على البقاء وبلا استراتيجية واضحة، بينما كانت الدول العربية تتدخل ولا تتدخل، وغالباً بانتظار التعليمات الأمريكية.
ما زالت الحرب الباردة مستمرة، لم تنته مع سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي، وما برحت الحروب البعيدة عن الغرب، تسير في ركاب مصالحه. أما مبدأ عدم التدخل، فعدا سريانه، طرأ عليه تطور، أدى إلى تنظيم التدخل بين الدول المعنية على أسس محاصصة باتت أمراً واقعاً. وهكذا تبقى سورية معلقة، خاضعة للتجاذبات الإقليمية والدولية. أما الشعب السوري، فلا مسؤولية تجاهه، فالحكومات بلا ضمير، لا سيما أن النظر الواقعي يمنحها المبررات، مهما كانت انتهازية ومسفة، يجري التعبير عنها بلا مواربة:
إذا كان السوريون قد استطاعوا تحمل أربعة عقود من الدكتاتورية، فلا بأس بعقدين آخرين مضي منهما واحد, طالما أنهم تعودوا على ما يفوق الموت.
-
المصدر :
- الناس نيوز