شهدت العقود الأخيرة في المنطقة بعض المتغيرات الإيجابية، جراء دخول دول الخليج على خط الثقافة، لم تكن محدودة ببلدانهم، بل شملت البلدان العربية كافة، مع بدء الدعوات الاشتراكية بالانحسار، والتواصل بين البلدان لا يخضع للاتهامات بالعمالة. في وقت كان النشر في لبنان وسورية والعراق ومصر، يراوح في مكانه، إلى أن بدأ بالتراجع، مع خفوت ضجيج المظاهر الاستعراضية من مهرجانات دعائية ثقافية موجهة. باتت لدى الحكومات في مصر وبلدان المشرق مشاكلها السياسية والاقتصادية، إضافة إلى الشبح الأمريكي والإسرائيلي المهددين الدائمين للمنطقة، ما أدى إلى رصد ميزانيات ضعيفة للثقافة، مع دعم متدنٍ للمثقفين يكاد يكون لا شيء، كان من تجلياته التضييق عليهم، وكان في عرف الأنظمة نوعاً من المساعدة لئلا يتورط المثقفون بما يجلب عليهم غضب السلطة، كما اعتبر من أكدوا على حرية الرأي والتعبير، أنهم معارضون سياسيون. فأخضعوا للرقابة، أو لوحقوا وطردوا من وظائفهم. ما أدى إلى تواريهم، وظهور باحثين عن المناصب والمنافع، يرسمون سياساتها الثقافية.

شكل إسهام الخليج في الثقافة بادرة طيبة، بدا وكأنها تشكل تعويضًا عن السياسة. في ذلك الوقت تحققت مقولة بريئة هي الثقافة للثقافة، وبدا أنها السائدة، لم تتخلف عن بلد طوال سنوات. على سبيل المثال، قدمت الإمارات منافع استفاد منها المثقفون في مشاريع الترجمة والنشر والندوات والتكريم والجوائز المتعددة، والكثير من المظاهر الأدبية…فشجعت الناشئين من الشعراء وكتاب القصة والرواية، ودعمت الأعمال الأولى للشباب بالمشاركة بالمسابقات الأدبية. كذلك الجهود الاستثنائية لدولة قطر في الحقل الثقافي، كانت كلها تصب في العمل على إنضاج شخصية ثقافية متميزة في مشاريع طموحة وواعدة على قدر كبير من الأصالة والعمق، لم تتخلف عن جميع مناحي الثقافة وفي تقدم مستمر. أكثر ما تلاحظ في مدينة الثقافة والفنون “كتارا”، وفيما أصبح صرحاً ثقافيًا تحت عنوان “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” سواء في مؤتمراته وندواته حول الشؤون العربية والدولية، والبحث في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والإعلام، وإصداراته مجلات محكمة وكتب أكاديمية مؤلفة ومترجمة، ودراسات الماجستير، والعمل بجهد لا يضاهى على إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية.

لاشك في أن الدولة الرائدة كانت الكويت التي صنعت ثقافة طوال أكثر من نصف قرن نهل منها المثقفون في أرجاء الوطن العربي، من خلال مجلة “العربي” وسلاسل المسرح التي قدمت دفعا للحركة المسرحية العربية، لولاها ما سيطر حينها المسرح على الفنون كافة، وسلسلة عالم المعرفة وعالم الفكر التي شكلت الوعي العربي للفكر المعاصر، وبأسعار زهيدة لم تشكل عبئا ماديا على المثقف…. لم تصنع الكويت ثقافة فقط، بل مثقفين أيضًا.

العالم العربي مدين للخليج ثقافيا، هذا أمر لا يصح إنكاره. كانت الجهة التي ساعدت المثقفين العرب وأبرزت أعمالهم وجهدهم، كرّمتهم وأكرمتهم…. ولن نغفل أمرًا، فقد انفسح المجال للفساد أيضًا، طالما الفساد يخالط المال، أينما وجد المال، وجد الفساد، فما بالنا بالمال والشهرة معاً؟ فالكتاب المعروفون أرادوا تكريس مكانتهم بالجوائز، وبلمسة سحرية أرسلتهم ومعهم الكثيرون إلى الشهرة، ومن يسعى إلى النجومية ظفر بها، وأصبح هناك صيادو جوائز محترفون، كانت العلاقات الشخصية وتبادل المنافع طريقهم إليها. عمومًا، بصرف النظر عن هذا الجانب، كان العائد على الثقافة العربية مرموقاً وملموساً في جميع أنواع الأدب والفن.

اليوم الثقافة على مفترق طرق، ما الذي سيقودها؟ هل هو التطبيع والفساد معًا، أم أن الثقافة ستعمل على الحفاظ على استقلاليتها؟ هل لدى الخليج النية على رعاية ثقافة متحررة من الضغوط لا تحجر على حريات الرأي والتعبير؟ من دون حرية تغدو الثقافة مزورة دعائية مكممة منقادة خانعة، لن تكون فاعلة إلا بعدم وضع القيود على حرية الكتابة. نعلم أن السلطات لن تعوزها الرقابة الخشنة، التي نلاحظها في معارض الكتب، بينما الآن نستشعر خطرًا، من أن تضيف الثقافة الموعودة، رقابة ناعمة من المنح والأعطيات ومشاريع الدعم المشروطة والجوائز … كل هذا للجم المثقفين عن الثقافة نفسها، والقبول بوصاية الأنظمة.

قد يستدعي الموقف الأخير لبعض دول الخليج من القضية الفلسطينية، عدم التساهل في انتقاد سياساتها، ولو أنها دول ذات سيادة، لا يحق لأحد التدخل فيها، والتهديد بأن من ليس معها فهو ضدها، وإشهار سلاح المنع بوجه مثقفين عزل. أما الجديد المتجدد، ففي الادعاء، بأنه لا يحق للأدب والفن التدخل في السياسة.

إن خطر الرقابة الناعمة، يتبدى في ابتزاز المثقفين، ومن دون قسر، بحيث يراعي المثقف سياسات هو ضدها، ويرضخ لاشتراطاتها، ما يجعلها تتحكم في كتاباته ليرضي المشرفين على الأنشطة الثقافية لئلا يصطدم معهم، ما يسيء إلى الجهد الثقافي الخليجي، ويؤثر في ثقافة نرجوها كي تفعل فعلها، أن تكون حقيقية ومتحررة من سياسات آنية، أو مرحلية. وإذا كان المثقفون مطالبين بدفع مقابل للدعم الثقافي، فهذا الكرم مغمس بالسم والدسم.

يعتبر المثقف الدرع الأخير في القضايا ذات الشأن العام التي تعني وجودنا كعرب، لم تفلح السجون ولا السياسة أو الدبلوماسية، ولا التهديد والوعيد في تنازل المثقف عن مواقفه. ولن يمكنه الاستسلام في معركة هزم فيها، لكنها لم تنته بعد؟ الثقافة وضعها مختلف، لا علاقة لها بسيادة الدول، الثقافة عبارة عن بشر وقضايا وحقوق وحقائق، ليس بوسع المثقف إدارة ظهره لها، إلا فقد صفته كمثقف.

نعرف أن الثقافة لا تنفصل عن السياسة، ونعلم أن الرضوخ لضغوط سياسية، مؤشر على أن الثقافة لو انصاعت لها، فسوف تخسر مصداقيتها. هذا الكلام، دفاعا عن مؤسسات ثقافية قدمت للعرب خدمات عظيمة. وإذا كنا نطالب بألا نخسرها، فنحن نطالب أيضا بألا يتعرض المثقفون للابتزاز. ولن يكون الحل، إلا برفع السلطات أيديها عن المؤسسات الثقافية، والاعتراف باستقلاليتها.

هل ينجح الخليج في عزل الثقافة عن سياساته؟