قالت مي سكاف، لا أريد لابني أن يحكمه ابن بشار الأسد. تلخص هذه العبارة، ما وقع على السوريين من قهر، لا يرغبون أن يطاول أبنائهم، أو يصادر مستقبلهم، أي لا نريد أن يتوارثنا ويتوارث أولادنا نظام ظالم، لمصلحة سلالة مستبدة ولا حتى سلالة عادلة، أي أننا شعب حر.

في الحقيقة، ليس هذا الرفض القاطع من بنات أفكار مي سكاف؛ إنه واقع الحال، شهدته يوميًا، وأعلنت عن استحالة الخضوع له، تكلمت باسم السوريين، ولو أن الجمهورية أصبحت مملكة، والرئيس ملكًا، والحكم وراثيًا، مع محافظة الدولة على المظاهر الجمهورية.

استدعى نظام الحكم تصنيف الدولة السورية تحت وصف “الجملوكية”. كان نوعًا من التلفيق، إذ تنتفي عنها صفة الجمهورية، لحضور التوريث، كذلك الملكية التي لا تعدو أكثر من رمز وتقاليد في البلدان الديمقراطية، كما في بريطانيا وهولندا واسبانيا. إن نظام الطغيان الذي يرزح تحته السوريون، لا يزيد عن ذلك النوع الرث من النظام الشمولي الهجين.

هذا الحضور المشوه رعته روسيا على النحو الذي هو عليه، إنه الأفضل لتحقيق الاستقرار، ولو فوق الجثث، الاستقرار لم يتحقق، وإن أنقذ النظام من السقوط، بإلحاقه، بجمهوريتها القيصرية، فروسيا تأمل توحيد العالم السلافي تحت جناحيها، فالقيصر متوفر، إنه بوتين.

لا يتصور القيصر عودة الإمبراطورية من دون مستعمرات، طالما الظروف الدولية توفر سانحة، طواها الزمن، عادت غير محددة بزمن، ما دام المُستعمَرون يسيرون على نهج المُستعمِرين، ينتجون سلالات تنحو للبقاء إلى الأبد.

يطمع القيصر باستعادة مآثر الإمبراطورية وأمجادها الاستبدادية، بالاستناد إلى تاريخ روسيا ما قبل البلشفي. كذلك وريث العرش السوري، يطمع بالبقاء بالاستناد إلى سلالات من الخلفاء، توارثوا وأورثوا الحكم، لأبنائهم، لا ينافسه في هذا الطموح، سوى “داعش” بإقامة خلافة توارثية. وهكذا يجري تحويل مواطنين أحرار إلى جماهير تهلل وتصفق للرئيس لمجرد انه من السلالة المباركة.

منذ أنقذ بوتين النظام السوري من السقوط، كان قد أسند إلى نفسه لقب: الوصي على العرش، بوضع سوريا تحت عهدته، كرسها بالفيتوات في مجلس الأمن، فذهب العقاب على ضربة الكيماوي هباء، كذلك الطائرات التي تقصف الأفران والمستشفيات والمستوصفات، وتقتل الأهالي. وهكذا أصبحت أقدار السوريين تحت القبضة الروسية، بينما توارى الملالي يعملون تحت الأرض، على اختراق النسيج المجتمعي السوري، وبناء قواعد للمذهبية الإيرانية، تبشر بالتشيع.

قبل مسايرة الاشاعات القائلة بالحل الروسي، لابد من النظر إلى ما يمنحه الاستعمار من حقوق للقيصر، تكفلها سياسات النهب؛ قواعد عسكرية وبحرية، مطارات وفوسفات وغيره من استثمارات وامتيازات طويلة الأمد. عدا ما تمنحه إياه صلاحيات يصعب حصرها، طالما هناك ملاحق سرية، إضافة إلى مرتزقة روس يعيثون قتلا وفسادا.

أما الواجبات فتكريس سردية النظام للسنوات العشر الماضية، تصف الانتفاضة السورية بأنها اضطرابات جماهيرية مشبوهة، استجرت تدخلات جماعات متأسلمة مسلحة، تحولت إلى حرب إرهابية، ما استدعى تدخلات خارجية، أدت إلى نزاع مسلح. برزت خلالها تشكيلات عسكرية غير شرعية، ما عرض سورية لاعتداء غير مسبوق من قبل الإرهاب الدولي.

هذه السردية غطت ما قبل. أما ما بعد، ونحن على عتبة الدخول إلى العشرية الثانية التي ستبدأ بانتخابات ملفقة تكرس سبع سنوات من الاستقرار، بحسب الدبلوماسية الروسية، التي أكدت أن الأسد سيفوز “بطبيعة الحال”، مع الاعتراف بصعوبة تحديد ما سيحدث خلالها، وما إذا كان سيتغير شيء بطريقة ما، أو ستجري إصلاحات سياسية في البلاد. إذ لا ضمانة.

ما يؤكد أن الدبلوماسية الروسية، ليست خارج الواقع، بل واقعية تمامًا، فالوقت يجب التلاعب به تمهيدا لحل يكون في صالحها، لكن هذا الواقع لن يسمح لها بحل، ينهي الأزمة السورية كما ترغب وتشتهي، وإن وعدت بالتواصل مع المعارضة والنظام من أجل الدفع بمسار اللجنة الدستورية، ورفضت وضع أي سقوف زمنية لعمل اللجنة، ولا فرض إملاءات خارجية على جدول عملها. وهو نوع من التعجيز لا يفضي إلى حل، بقدر ما يهدر أي حل.

على هذه الشاكلة تتوالى التصريحات الروسية، لا توحي بخطوة إلى الأمام بل بخطوات إلى الخلف، وهي حلول من قبيل تضييع الوقت. وهو ما اعتادوا التصريح به، ليقولوا شيئا ما للإعلام، هذا القدر من الأكاذيب لا يقنع حتى الذين يروجون لها.

ما يوجب التساؤل، هو كيف وضع رئيس بلده تحت سلطة يمكن وصفها بالاستعمارية، بعدما أصبح الاستعمار من التاريخ الملعون؟ هذا بصرف النظر عن الملالي، الحاكم الخفي الذي ينتظر الفرصة ليكون الحاكم الفعلي.

هل يحق له، وهو لا يزيد عن وريث غير شرعي، قتل وتهجير الملايين، وترك البلد نهباً لخمسة جيوش احتلال، مع خراب ودمار وغلاء، دفع الناس إلى الاصطفاف في طوابير الخبز والغاز والوقود؟

حسب مراقبين، كان الطريق قصيرًا وممهدًا ليتحول من وريث إلى رئيس. ولقد قيل له في بداية الاحتجاجات: “أعط شعبك بعض الحقوق، وبعض الكرامة”. فبلغ به العمى، أنه حتى النزر اليسير من الكرامة وبعض الحقوق كان ضنينًا بها على الشعب، ذلك شيء لا يصدقه العقل، لكنه فعلها.

مع هذا سيبقى ماحدث محيرًا، اذ يستحيل فهم ما فعله، خاصة أنه وضع البلد في مأزق خانق قد يستمر عقودًا أخرى، بلد لا يملك فيها القرار الحاسم، سوى القيصر الروسي الذي يسعى إلى تليين النظام، ليحل محله بالحسنى أو قسرًا، مع أن النظام ما زال يعتقد أن بإمكانه التلاعب على بوتين، وينسى أن الوصاية على العرش منصب شكلي، بينما الحقيقي والأدق، لا يصفه سوى تعبير: الاستعمار .