الثورة انهزمت، لكنها لم تنتهِ، ما زالت، ليس نوعاً من المكابرة، طالما هناك احتلال على الأرض وجيوش أجنبية تقاسمت البلاد وميليشيات مذهبية وتغلغل طائفي ومتغيرات ديموغرافية وتهجير وتوطين… أي كل ما يعمل عليه وينكره النظام وأعوانه والموالون له.
الثورة باقية، إنها احتجاج على الظلم، مع أنها ثورة تنخر فيها الفرقة، تديرها معارضة ضعيفة تنحو إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالإجهاز على ما فضل منها، بدلاً من أن تعمل على إحيائها، أو موتها بشرف.
المتابع لما آل إليه المشهد السوري على مدار سنوات، سيستغرب تقلباتها، سواء في عفوية نشوبها وانطلاقتها وتراجعاتها؛ أو تمددها بفعل رصاص قناصة النظام وصواريخه ودباباته وقصف طائراته. في الواقع، اندلعت بفعل تراكم المظالم والقهر والافتقاد للحريات وعدم الأمان، واستمرت بشجاعة لتوافر الإرادة بالتغيير، لم تحمل إيديولوجية، كانت تلقائية، لم تتبنَ استراتيجية أو منهجاً يمكن الاسترشاد بهما، هذا أحد أسباب هزيمتها، رغم كل التفوق الأخلاقي، والتضحيات التي بُذِلت، والدماء التي سُفِكت. عوامل الهزيمة أكثر من أن تحصى، عدا أنه مختلَف حولها.
مع الانتخابات الرئاسية، لا يبدأ فصل جديد، ولا يعني أن الوقت قد فات، فالظروف لم تتغير، ولا مجال لأي تغيير ديمقراطي هادئ أو عنيف، فلا استعادة للثورة حالياً، ولا عدالة تلوح في الأفق، مهما كان تسميتها؛ انتقالية أو ما شابه. بعد سنوات الدمار، ما زالت البلاد مهددة بالفوضى والسلاح والقتل العشوائي والإرهاب وانتشار الرعب الطائفي وجرائم الأجهزة الأمنية، ولا يُستبعد عودة التفجيرات المريبة، في حال تطلبت السياسة ذلك، عباقرة النظام الأمني مستعدون لتوفير ظروفها والمتّهمين بها. علمتنا المحنة أن استمرار القتل وانتشار الفوضى واستفحال الكارثة، لا يحتاج إلى الكثير من الاستعداد، إنها جاهزة تحت الطلب.
ستجري الانتخابات تحت إشراف المؤسسة الأمنية، كانت من صناعتها سابقاً، وهي الأدرى بها، والأقدر على صياغة النسبة المثالية لهذه الظروف، طالما المرشحون لا يرضون بأكثر من أن تظهر صورهم يُسبّحون بحمد الرئيس؛ فلا تطمع معارضة في الداخل أن تمتلك ولو قدراً ضئيلاً من الحرية في العمل، ما دام جواز مرورها الاستخبارات؛ إلا إذا كانت على مقاس النظام، مثلما الدستور لن يكون إلا على مقاسه، ولو كان خارج منطق العصر، ما دام تهجير الملايين من بيوتهم وأراضيهم كان مضاداً للإنسانية؛ كذلك الإطاحة بجوهر النظام الجمهوري، بتوريث الحكم.
ليس في هذا جديد ما، فالرئيس الخالد عمل على تصميمه هكذا، تنتقل السلطة بالتسلسل من الأب إلى الابن فالحفيد، كلّ ينتظر دوره. لم يختر الأب خليفة له أحد رفاق الدرب في العمل السري والنضالات الانقلابية؛ اختار أبناءه لتأسيس سلالة حاكمة في سورية تحمل اسم العائلة، هكذا أراد دخول التاريخ بالقوة والتوريث، فلا يعتقدن أحد أن الشعب ينتخب، الرئيس الخالد انتُخب وإلى الأبد.
ولا أحد يجهل، هذا إذا كان غير أعمى، أن الوريث لن يصل إلى سدة الرئاسة إلا بتوافق القوات المسلحة والهيئات الأمنية، الانتخابات الفعلية تدور داخل الجيش وكواليس جهاز الاستخبارات، ضمانتهم مطلوبة، مع أن الإطاحة بهم واردة بجرة قلم. هذا من قبل، وما زال سارياً، أضيف إليه الآن موافقة الروس والأمريكان والإسرائيليين والإيرانيين… إنه الواقع، يضيف عناصر استجدّت، يتطلّبها الاحتلال، لكنه ليس قدراً.
لو كان للشعب صوت، لما كان هذا العهد، ولا الذي قبله، ولما كان توريث ووراثة. الثورة لن تنتهي، أسبابها موجودة، ما زالت تعتمل في النفوس، طالما هناك وضع غير إنساني، لا يليق بالبشر والحرية والعدالة، ولا يمكن الاستمرار في العيش على نحو تأباه الكرامة والضمير. الحياة نفسها ضده.
قبل الانتخابات، أخذ النظام يسترضي الشعب المنهك، بتنزيل الدولار وتعديل سعره، وبتوفير القليل من الكهرباء والوقود بالحدود الدنيا، وإصدار عفو لم يشمل المعتقلين السياسيين الأجدر بالإفراج عنهم، كل هذا مقابل خروج الناس من بيوتهم ليمارسوا حقهم في الانتخاب، مع أنه غير مهم على الإطلاق، فالصناديق التي ستعلن النتائج جاهزة، لا مفاجأة، النسبة متفق عليها. كل ما هو مطلوب من الشعب، ظهور طوابير الناس يدخلون ويخرجون إلى مراكز الاقتراع، لالتقاط الصور التذكارية، قد تخفف من مناظر طوابير الخبز والبنزين والغاز. يعتني النظام بالمظاهر، ولا يتورّع عن الكذب بكل وقاحة.
بعد تنصيب الرئيس المُنصّب أصلاً، يظن النظام أنه سيعود أقوى مما كان، ويحاسب كل من لم يقف معه في لحظات مصيريّة. لا يدري أحد ما الذي سيفعله، مع أنه أنجز حسب قوله تطهير الشعب، وأصبح أكثر ثقة بقدراته، بعدما سجل ضحايا بالملايين؛ شهداء ومعتقلين ومغيبين قسرياً ومختطفين ونازحين ومهجَّرين. بالنسبة إليه، كانت نهاية سعيدة، هل هناك نهاية سعيدة أخرى؟
نحن في عصر لا يقف فيه العالم إلى جانب الشعوب، باتت الثورات مكلفة، ولئلا تتحول ثورة السوريين إلى تجربة عابرة، تُهمل وتُنسى، ريثما تنطوي في الماضي. علينا أن لا نستهين بها. إنها ثورة عظيمة، لم تخفق في هذه المرحلة، إلا لأننا لم ندرك أن الثورة تكون ديمقراطية أو لا تكون، الديمقراطية تتسع للجميع، لا تلغي أحداً.
هذا ليس تأبيناً للثورة، هذا لندرك أنها مازالت، طالما النظام ما زال.
رأي
-
المصدر :
- الناس نيوز