تعددت وسائل الإعلام وتنوعت، عما كانت عليه منذ نشوئها إلى الآن، كانت مقتصرة على الساحات العامة والمنتديات والمقاهي، فالجرائد. ثم أضيف إليها الإذاعة والتلفزيون، ومؤخراً وسائل التواصل الاجتماعي. وكلها ذات دور
وتأثير لا يستهان به، إنها نوافذنا على العالم. ففي زمن سيطرة التلفزيون كان الفرد يقتطع من وقته نحو ساعتين إلى أربع ساعات يومياً، يقضيها محملقاً في الشاشة الصغيرة، إلى أن زاحمها الإنترنت، واتسع الوقت لقضاء
ساعات إضافية، أحياناً بلا حدود. هذا إذا لم نعمل حساب ساعات العمل الفعلية على الكومبيوتر والتي قد تمتد إلى عشر ساعات، لا نفتر خلالها عن الإبحار من موقع لآخر، ما يرتد علينا بتأثيرات متلاحقة، لا يشترط أن تكون
أعمق، إن لم تكن أكثر تشويشاً. فالعالم انتشر على صفحة شاشة سريعة المتغيرات، نحن متسمرون إليها، وكأنها الحياة نفسها، باتت تغنينا عن الشارع، أي عن الواقع.
أصبحت وسائل الإعلام، تثري معارفنا، وتكوّن قناعاتنا وتُطلعنا على عوالم لا نحلم بزيارتها، وقد لا نعلم بوجودها، فكم هذه الوسائل مثيرة! وتزودنا بمعلومات وأفكار، نسترشد بها في آرائنا الاجتماعية والسياسية والدينية
والأخلاقية والجنسية.. فكم هذه الوسائل مفيدة! لكن ماذا إذا تحكمت فينا، وكان هناك وراءها، ربما دولة أو حكومة أو حزب، أو حتى شخص واحد. بوسعنا القول عندئذ، كم هي خطرة!
ليس هذا من قبيل المبالغة ولا المخاوف الطائشة، إن تأثير وسائل الإعلام بات يفوق بالنسبة للشباب تأثير العائلة والمدرسة والجامعة، من دون استثناء تأثيره على الرجال والنساء الناضجين وكبار السن الذين يسترشدون
بها أيضاً. الخشية أن الجميع واقعون تحت تأثيرها، ولنقل سطوتها الناعمة، فهي تقول ما تريد، وتمتنع عما لا تريد، تُعلمنا بما نرغب، أو ما لا نرغب فيه، تحجب او تنشر ما تشاء من أخبار، قد تكون محرفة أو غير حقيقية او منحازة لطرف ما. فكم هي فعالة!
المثال الشهير عندما أقنع الرئيس الأمريكي بوش ورئيس الوزراء بلير وسائل الإعلام الكبرى في أميركا وانكلترا بأن صدام حسين يمتلك أسلحة الدمار الشامل. كانت وسائل الإعلام الكبرى تذيع الخبر صباحاً ومساءً، فصدق
الناس هذه الاكذوبة، ولم تنكشف الخدعة إلا بعدما ظهر أنه لا يمتلكها، وكان العراق قد دمر، وحصلت أكبر كارثة إنسانية.
المثال الآخر الأكثر شهرة من حيث الديمومة، توافق أمريكا وأوربا على تسويق الرواية الإسرائيلية حول حق إسرائيل بالسطو على فلسطين وطرد أهلها. ما يكشف أن الرأي العام العالمي بات يفهم القضية الفلسطينية
بشكل معكوس تماماً وهو ان الفلسطينيين يعتدون على الإسرائيليين، وأن إسرائيل ضحية العرب، ويصل الإفك والمرارة إلى حدودهما القصوى عندما يعتقد الإسرائيلي عن إيمان وقناعة أن له الحق في فلسطين، وأنه المعتدى
عليه، ثم يقاتل وهو لا يدري دفاعاً عن حق مغتصب، ويرفض أن يفهم أبسط الأمور، وهو أنه يطرد سكاناً أصليين من بيوتهم، وهو القادم من بلد يبعد آلاف الكيلومترات. فأية جريمة ارتكبتها الدول ووسائل الإعلام؟!
هذا يحدث في بلدان ديمقراطية تُسوِّق الأكاذيب فيها وسائل إعلام “حرة”، فإذا كانت تكرس إسرائيل صاحبة حق، فهذه وسائل تضليل وخداع وقتل. ومسؤوليتها تتعدى بث أخبار كاذبة إلى ارتكاب جرائم معلنة، بينما المقصود
من وجود هذه الوسائل جعل جميع الأفكار والآراء والتصورات في متناول جميع الناس، وإمكانية التبصر والحجاج فيها، ما يفترض توخيها الحقيقة، وتحت المحاسبة، فلا تخاطر بانهيار مصداقيتها إزاء جمهور القراء والنظارة
والمستمعين، لا يبعدها عن الانحياز، ولا يعصمها عن التعتيم على الحقيقة، لكن ماذا لو كانت تعلن عن انحيازها المسبق على أنه هو الحقيقة المنشودة، وتروج له بأدلة مفبركة عن سابق تصور وتصميم؟
فلنتصور متفرجاً من دون أفكار مسبقة، يريد تفهم مجريات قضية سياسية في عجقة وسائل الإعلام التي يجهل انتماءاتها، أصلاً أغلبها يخفيها، وهي بالعشرات، وكل منها يجره إلى موقعه وموقفه، فلن يصل إلى الحقيقة، بل
إلى حقائق مزعومة ومتناقضة، ولن تكون هذه الوسائل سوى وسائل تجهيل، طالما الشقة واسعة بينها وبين الواقع على الأرض، لكن من يهتم؟ وماذا لو اقتصر الناس على تصديق ما يسمعونه وما يقرؤونه، فسوف
يعيشون في فقاعة شفافة، يرون الكثير والكثير جداً، لكن لن يظفروا من خلالها إلا بالخديعة.
عندما يقال إنه على أصحاب الحقوق مخاطبة الرأي العام، لئلّا يتعرض للتضليل من سياسات الدول ومطامعها أو السياسيين أو الشركات الكبرى، فهذا ليس بالمهمة السهلة، ولو كان للحق قواه الذاتية، المشكلة في
توصيلها، ماذا عن وسائل الإعلام؟ لذلك نبرم في حلقة مفرغة.
ثم لا ننسى أن الدكتاتوريات لا تسيطر على شعوبها بقوة الجيش والأجهزة الأمنية فقط، بل بغسيل العقول أيضاً. وإذا أتيح لنا التعرف إلى تلك الأفكار المستقرة في أذهان الناس، فسوف يذهلنا قوة ترسخها، وصعوبة تغييرها، ندرك عندئذ كم هذه الوسائل خطرة!
-
المصدر :
- الناس نيوز