كان العقيد القذافي يدعو من فترة لأخرى، بعض الأدباء إلى جلسة أدبية في خيمته المشهورة، ويجري النقاش معهم في موضوعات متعددة، يتوخى الأدباء الحذر أثناءها رغم الحرية في إبداء الرأي. مرة أبدى العقيد رغبته في الاستماع إلى بعض الشعر، وكان انطباع المدعوين رغم الانبساط، ما زال مخيفاً. ففي ذلك الوقت كانت تقلبات العقيد قد انصبت على الشيوعيين، فتعرضوا إلى الكثير من العسف. في نهاية الجلسة، تشجع أحد الضيوف ورجا العقيد، أن “تُزيل عنا هذا السيف”، أي تهمة الشيوعية، وسانده رفاقه بالتمني عليه أن يعاملهم على أساس من دخل الثورة فهو آمن، فصحح لهم العقيد بأن “من دخل الخيمة فهو آمن”.

ما الذي قصده العقيد؟ هل الذين كانوا معه في الخيمة وحدهم من منحوا الأمان، هذا ما يبدو، أي لا يكفي أن يكونوا مع الثورة، بل في الخيمة. بينما كان من المؤكد، أن أي مثقف لم يتمتع بالأمان في ظل هذا النظام، مهما كان مقرباً، ولو جمعته جلسة خاصة مع القذافي في الخيمة. فالدكتاتورية لا يمكنها منح الأمان لأحد لأن أمانها، ليس من أمان الأفراد. وكلما تعرض الناس للرعب، كانت الدكتاتورية في خير حال. وبالمناسبة، كما سيُعرف فيما بعد، أن المناقشات الصريحة حتى مع الرفاق والأعوان، لم تمنحهم الأمان، مثلما لم تعن وعود الثورة بالمساواة والحرية والرخاء، أكثر من هراء.

ليس أنه لا يمكن الثقة بالدكتاتور، ولو كان النظام يسمح له بإطلاق الوعود، أي بالكذب، فلا يفي بها. من سيجبره؟ للدكتاتور نزوات وأمزجة، يمنح شعبه في خطاباته القومية، الوعد بالجنة على الأرض، أو الانتصار على أمريكا وسحق الشيوعية، ما دام الشعب مضطر للسماع، ومضطر للانسياق إليه، وإلا اتهم في وطنيته. لذلك لا غنى عن الوعود البراقة، خاصة أنها تأتي بالمعجزات، أو السجون، أما المعجزات فلا تتحقق، عادة السجون.

كرست الدكتاتوريات العربية زمناً بدت فيه أنها المستقبل، وباقية إلى الأبد، من خلال المهرجانات الثقافية والفنية والأدبية لا تكاد تبدأ في القاهرة، حتى تنتقل إلى بغداد، ثم إلى ليبيا، ولا تتوقف في دمشق… مهرجان دائم، وكأننا في الزمن السعيد، زمن عودة الحضارة العربية وازدهارها من جديد. بينما المثقفون يرتحلون من بلد إلى بلد، كواجب وطني وقومي، يتصدروا القاعات والندوات والمعارض واللقاءات والمناقشات والمحاضرات، كانوا من أهم المثقفين، مثل محمود أمين العالم، ولطفي الخولي ومحي الدين صبحي، وغيرهم إلى حد يصعب احصاؤهم، لتغطية فعاليات تتلاحق على إيقاع قصائد الفيتوري وسعدي يوسف وأحمد فؤاد نجم.

كان المثقفون يتسابقون ويتنافسون إلى حضور المناسبات الثورية، ثم يختلفون ويتفرقون، وينحاز كل منهم إلى بلد، فالثورات كانت على قدم وساق، بينما الأنظمة لا تقصر في ضمهم تحت جناحها، وقد يعيش الأديب من مكرماتها، وتمول نشاطه السياسي والإبداعي، أو يشتغل في جرائد ممولة. كل هذا في سبيل انتصار الثورة ومقارعة الامبريالية، يغفرها لهم أن غالبيتهم في صفوف اليسار، أو التحقوا به، ولو متأخرين.

لن نفترض العمالة ولا البراءة، المثقف قد يُغرر به ويُخدع، لا مأخذ عليه ما دام يدافع عن نظام حكم تقدمي. ففي ذلك الوقت، اعتقد أن الغاية هي إرساء العدالة الاجتماعية والمساواة والقانون، بينما كان يدافع عن نظام القهر والقمع والمنع والسجون. تورط كبار مثقفينا، كما تورطوا في العهود نفسها في السجون. وإذا كنا نحترمهم ونحفظ لهم مكانتهم، فلأنهم كانوا مع حركة التاريخ، وكانوا مصدر ثقافة وأفكار أجيال، عملوا بكل جهدهم وطاقتهم، ولا نجهل أن تجاربهم مع هذه الأنظمة، كانت انتحارية، كلفت بعضهم حياتهم.

كان الخطأ في مراهنتهم على أنظمة حكم شمولية، وعلى أن هؤلاء القادة يريدون لعب دور مشرف في التاريخ، لكن حسب اعتقاد العسكر أنهم بمجرد استيلائهم على السلطة قد أجبروا التاريخ على استقبالهم، وما على المثقفين سوى التطبيل لهم..

لم تكن المشكلة في القومية العربية والوحدة والحرية، كانت شعارات، أما المثقفون فكانوا الأدوات، وكانوا الضحية، قدموا مثالاً خاسراً، ووفروا على من جاء بعدهم تجارب مماثلة، لا ثقة في الدكتاتور، ولا في أي نظام دكتاتوري.

بعد عشر سنوات من الثورة والحرب، لا عذر للمثقف، لم يعد يُغرر به أو يخدع، إنه يُشترى، ما دام يعرف ما يعنيه النظام الشمولي، لا فرق بين حكم جمهوري أو ملكي، كلاهما لا يرضيان بمثقفين، وإنما بعملاء وأجراء موظفين لديهما، يقدمون لهما الخدمات.

الطغاة الحاليون ليس لديهم أية موهبة، وإذا كان. لديهم إحساس فهو الشعور بالغيرة من مليارديرية العالم، جلّ اهتمامهم تكديس المليارات في الملاذات الآمنة، خوفا من شعوبهم غير الموثوق بها، وبلدانهم غير الآمنة.