لا يثير الربيع السوري العاصف والدامي قضية التاريخ إلا لأنه يكتب الآن بقدر كبير من التسرع واللغط والتشويش. فمن جهة يسعى الناشطون إلى توثيقه سراً تحت النار والخطر من خلال وقائع وشهادات، وشهود وشهداء، ومظاهرات وأهازيج، أما السلطة، بالمقابل، فتسعى إلى توثيقه بالبيانات والشعارات والتصريحات، مع قدر مهول من التضليل الإعلامي، كأسلوب لا مندوحة عنه تعمل بموجبه أجهزتها الدعائية الرسمية والخاصة. وعلى الرغم من مساهمة عدد كبير من مختلف القنوات الفضائية بمتابعة الحدث السوري، سواء كانت منحازة إلى هذا الطرف أو ذاك، فهي تنقل الحقائق مثلما تنشر الأكاذيب، وأقل بكثير من الواقع، ويقال إنها تغطي الأحداث الجارية طبقاً لمصالح وأجندات وضغوط غربية وعربية، وبالتالي لا يمكن الوثوق بها تماماً. إذاً على المؤرخين الانتظار طويلاً، على الأقل ريثما تتفتح أزهار الربيع. إن التنقيب عما يجري منذ نحو سنتين، يثقل على ما يكتب حالياً، لكن لابد من مواكبة حدث لم يأخذ أبعاده كاملة، وهو المادة التي سيستقي منها المؤرخون يوماً ما تاريخ الثورة.
حتى الآن، لم تظهر ملامح نهائية يمكن من خلالها تبيّن مآل الأزمة السورية، فما يصدر لا يمكن الاطمئنان إليه بشكل حاسم، فالتهويل لا يصبّ في دائرة الحقيقة، بل يعمل على تشويهها، عدا أن الأسلحة الخفيفة والثقيلة لم تترك فرصة للحوار، وهي حوّلت المظاهرات إلى جنازات، والحواجز إلى خطوط نار.
يدخل ما يجري على الأرض حالياً في ذمة الأرشيف من دون تمحيص. وفي هذا الإطار تواجهنا رواية النظام، التي تبلغ حدّ التناقض المطلق مع رواية الثورة. فالشهداء لدى الانتفاضة هم عصابات مسلحة في عرف السلطة، وعلى نفس المنوال، يصبح المطالبون بالحرية، أدوات لمؤامرة تحاك في الخارج. مثلما كان آلاف المتظاهرين الذين يهتفون بسقوط النظام لا وجود لهم في الشوارع. ولا تَعطُل المصالح وتدهور الأوضاع الاقتصادية، ومؤخراً لا خبز لا وقود لا كهرباء في الكثير من المدن والأرياف السورية، يعيق أجهزة الإعلام عن التأكيد أن الحياة اليومية تسير بشكل عادي.
غالباً ما يبدأ تزوير التاريخ من الحاضر، وهذا ما نشهده يومياً وما أتقنه النظام، رغم أنه لا يقنع أحداً، إلا الذين يرغبون في تصديق ما لا يصدق… لكن ماذا عن التاريخ؟ هل يمكن التنبّؤ بما سيقوله، أو الركون إليه؟ لا ضمانة، وإن من الصعب خداعه. بعض الحقائق الضائعة اليوم، قد تبقى ضائعة ليس لسنوات، بل لعقود، مع أننا نعيش في زمن من الممكن ضبط الحدث، وحصر أسبابه المباشرة وغير المباشرة، والإحاطة بالعوامل الاقتصادية والسياسية المؤثّرة فيه. ومع هذا يعتريها التزييف، فالكذب المتعمّد على مدار الساعة يلعب دوراً فاعلاً في تزوير الوقائع. وإذا كنا سننتظر صدور أحكام نهائية فاصلة وسريعة، فلن تسعفنا أعمارنا في معرفة الحقيقة، أو ما يبدو أنه الحقيقة.
وبدلاً من أن نذمّ التاريخ أو نمدحه، ففي ترك التاريخ للتاريخ فضيلة لا يستهان بها، ولا نأمل نحن الأحياء منه شيئاً مهما كانت أحكامه. المجدي أكثر، النظر إلى ما يحدث حالياً من منظار اليوم. الحاضر شأننا، والتاريخ سواء كان عادلاً أو ظالماً، رحيماً أم قاسياً، شأن الأجيال القادمة من البشر. المسألة ليست التاريخ، حياتنا ليست مرهونة له، ولا نحن في عهدته.
المسألة هي نحن، وإذا كان هناك درس أو عبرة للتاريخ، فهو هذا الذين نراه أمام أعيننا، ولن ننتظر الزمن ليعلمنا إياه. هذا الدرس البليغ، لا يحتاج إلى شرح ولا تفسير، سينقله الآباء للأبناء، والأبناء للأحفاد.