يمكن اعتبار الحل الأمني هو الرد على ما بدأ في آذار 2011 وما يزال مستمراً حتى الآن، تكراراً لما جرى عام 1982 فيما دعي بمجزرة حماة. بالرغم من الفروقات الواضحة بينهما: أحدها، اقتصار حدث 1982 على مدينة حماة، في حين تمدّدت رقعة أحداث 2011 وشملت أرجاء سورية. وأيضاً، أن الذي قام بانتفاضة حماة فصيل منشقّ عن الأخوان المسلمين لا يتجاوز عداد أفراده بضع مئات، لم تخف انتفاضتهم المسلّحة ملمحها الطائفي، وما أحبطها فعلاً ضعف المشاركة فيها. بينما انتفاضة آذار 2011 شارك فيها عموم الشعب السوري بفئاته كافة مع اختلاف نسب المشاركة. وأكدت على سلميتها بعدم حمل السلاح في الأشهر الأولى، مع التمسّك بنبذها للطائفية.
هذا الاعتبار استمدّ منه النظام السوري تقديراته وحساباته، وتصرّف على أساسه باستخدام ما دعي بــ”علاج حماة”. كان هذا بشكل مبكر قبل عسكرة الانتفاضة. فالخطوات التي انتهجها في قمعه كانت مشابهة في التعامل مع كل بؤرة على أنها حماة: الحصار، القصف بالمدفعية والدبابات، الاجتياح باقتحام الجيش للبلدة أو المنطقة، تمشيطها وتنظيفها بالاعتقالات والإخفاء القسري، والإعدامات الميدانية، وإن كان مع التصعيد بالقصف بالطائرات وصواريخ سكود، وانسحاب الجيش مخلّفاً وراءه جثثاً مشوّهة الوجوه ومربوطة الأيدي… وأرضاً خراباً.
حتى بعد مرور ثلاثة عقود على مأساة حماة، كانت لدى النظام القناعة بأنه سيواجه انتفاضة ثانية، واستعدّ لها بتطييف الجيش العقائدي، وتوسيع دائرة الموالين له باستدراجهم إلى جانبه تحت شتى المزاعم كحماية الأقليات، وربط مصالح التجار بوجوده، وتقليص الصراع مع إسرائيل إلى مفاوضات على المدى الطويل جداً، ومقاومة بالواسطة عن طريق حزب الله، ما سمح له بتضخيم أجهزة الأمن، وضبط الداخل السوري بقبضة حديدية. وكان في إعداد فرق خاصة من الجيش مدرّبة ومجهّزة بأحدث الأسلحة، لحماية الثورة في البداية، ثم النظام، وفيما بعد القصر الجمهوري، تولته سابقاً سرايا الدفاع، وحالياً الحرس الجمهوري، ضماناً للقضاء على أي احتجاج أو تمرّد، قد يعصف بالبلد.
هل توافر العناصر ذاتها يؤدّي إلى تكرار الحوادث بعينها؟ هذا ما قاد النظام إلى سلسلة من الأخطاء، كانت بمثابة جرائم كبرى اقترفت عن عمد. ففي استعادة التاريخ على هذا النحو مهزلة قسرية، المرعب أنها كانت سوداء ودامية. لكن ما نجح في حماة 1982، أخفق في سورية حتى بعد مضي نحو عامين على اندلاع الاحتجاجات، على الرغم من استعمال القوة المفرطة، طبقاً لاستراتيجية متدرّجة استباحت سورية بالاعتقالات، والقتل العشوائي والمبرمج، وهدم البيوت ونهبها، والمجازر الطائفية… جرى الإعداد لها على ألا تستنفد وسائلها، أو تقف عند حدّ، بالعثور دائماً على أساليب أكثر تطرّفاً بهدف القضاء على الثورة.
لم يخف النظام تقديره في كلتا الحالتين من حيث توافر العناصر ذاتها، مع ما يفصل بينهما من زمن. وكأن لا شيء تغيّر، مادام أن السلطة هي السلطة، والشعب هو الشعب، فالمؤامرة هي نفسها، ولا مفرّ من استخدام الوسائل ذاتها، أما التغيير الحاصل، فبالدرجة، تزيد أو تنقص، وعلى سبيل المثال، عُمل حساب تصاعد الاحتجاجات وانتشارها باستخدام جيش من الشبيحة.
للتداعيات منطق لا يخضع لأمزجة الدكتاتوريات. لم تبخل على الرئيس الوريث. منحته فرصة تصحيح ما ارتكبه الرئيس المورّث، امتدت إلى ما يزيد عن عقد من الزمن، استغله في إبراز صورة عصرية لحكمه، صورة أخفت التصدع الداخلي لبلد يستبيحه نظام من الظلم والنهب، حتى أن الصورة خدعته.
بينما الإنسانية في مأزق، إذ تعمل وفق المنطق البطيء جداً، للسلطة منطقها المتسارع: القتل، التجويع، التهجير، التعذيب حتى الموت، قنص الأطفال، التمثيل بالجثث… ترى ما هذه الإنسانية التي موضوعها البشر، إذ تكتفي إزاء هذه الجرائم باللغو؟
اللغو نفسه طوال ما يقارب السنتين!!