يطلق وصف “الجريمة الكاملة” على الجريمة التي لا يترك مرتكبها وراءه أثراً يدلّ إليه، فيفلت من المحاسبة والعقاب. على الضدّ منها، قيل ليس من جريمة كاملة، وهذا ما روّجت له الشرطة، خصوصاً شرطة سكوتلاند يارد، فأوقعت ببعض الأبرياء، لتستر عجزها. اكتشفت الحقيقة، بعد إعدامهم بسنوات، وأعيد الاعتبار لهم بعد أن شبعوا موتاً. هذا كثيراً ما حدث في البلدان الديمقراطية، أما في البلدان غير الديمقراطية، فالجرائم الحاصلة كانت أكثر كمالاً. المجرم كان معروفاً ولا أحد يتجرّأ عليه، كان محصّناً من النظام، إن لم يكن هو النظام نفسه.
انتشار مقولة “ليس من جريمة كاملة” كان لتثبيط همم أولئك الذين يخطّطون للجرائم الذكية. طبعاً لم يجد هذا الادعاء أذناً صاغية، المجرمون في تكاثر والجريمة مستمرة، ودائماً تعقد الآمال على الكمال بلا نقصان، وهناك الكثير من الجرائم الصغيرة والكبيرة والدولية، شغلت الرأي العام بمختلف أحجامه، ولم يقيّض لأجهزة الأمن كشف الفاعل رغم ما بذلته من جهود.
الأعجب أن هناك جرائم ترتكب على رؤوس الأشهاد، نهاراً وجهاراً، الضحايا بالآلاف، والجرحى بما يزيد عليهم، إضافة إلى المفقودين والمعتقلين، موثقة بالصوت والصورة، وشهادات شهود العيان، والتحقيقات الصحافية مع كم هائل من الآثار الدالة إليها في المستشفيات والمخيمات، فوق التراب وتحت التراب، ولا يحاسب المجرم. مع وجود مؤسسات من مهماتها إنصاف المظلوم من الظالم، بالعكس وجد من مد يد العون إلى الفاعل، ومن قدّم له الذرائع البطولية والوطنية والاستراتيجية، وأرشده إلى كيفية إيقاع أكبر قدر من الأذى بالضحايا. كما وجد أيضاً من قدّم له المهلة تلو المهلة، ليتابع جرائمه. والمجرم لم يوفرها، سارع إلى استعمال الأدوات الأقدر على القتل بالجملة ليحصد أكبر قدر من الضحايا. ولقد وجد من أدانه وهدّده وتوعّده، لكنه لم يفعل شيئاً ليضع حداً له، بل منحه الرخصة تلو الرخصة، متجاهلاً الضحايا، كأنها جرائم بلا إصابات ولا قتلى، وانتقد الضحية لأنها حملت السلاح لتدفعه عنها فعرّضت نفسها للقتل، كان ينبغي عليها أن تُقتل بصمت. وكان في من سارع لنجدة الضحية، سواء عن حق أو باطل، عن تديّن أو إرهاب، اتهام للضحية نفسها.
الجريمة المشار إليها، حققت ما فاق توقعات مرتكبيها. لم تأت من نباهتهم، بل من مخططات الداعمين والمحرضين. وإن كان هناك من سيصنفها على أنها جريمة كاملة، لإفلات مرتكبيها من العقاب حتى الآن، فمن الظلم وصفها به، إذ أن كمالها، لم يتحصّل لها إلا لتكاملها في الوحشية. فالمجرمون لم يتركوا نوعاً من أنواع القتل والتنكيل لم يمارسوه.
الجريمة مستمرة في سورية منذ نحو عامين، وهي تعدّت هذا الوصف، وحقّ لها أن تدعى بالمأساة الكاملة، وسوف تكون واحدة من أقسى مآسي عصرنا وأكثرها غرابة، من فرط ما تكالب عليها من معوقات وسوء ظن ونظر. حتى أن هناك من عزا ذبح الشعب السوري إلى الحظ السيئ الذي لازم سورية، وفي هذا اتهام للسوريين، بأن أقدارهم عاندت آمالهم في الحرية، ووقفت حجر عثرة في وجه نوايا الدول التي هبّت لمساعدتهم. والإدعاء أيضاً أن إخفاق الثورة كان في زمن شهد تسهيلات للثورات بأنواعها المخملية والملونة والربيعية، أما لماذا توقفت عند الحدود السورية؟ فهذا يعني أن السوريين مسؤولون عن نكبتهم بمعاكستهم للتاريخ.
حسب جهابذة الفن الروائي البوليسي، النصيحة الجوهرية لاكتشاف الدافع في الجريمة هي: “فتش عن المرأة”. بالنسبة للجريمة السورية، العالقة في كواليس السياسات الدولية، نقول “فتش عن المصالح”، أما لماذا؟ فلأن المصالح مقدسة، لا الأديان كما يدّعي الكثيرون. المصالح وحدها لها الأولوية، فهي لا تعبأ بالضحايا ولا بالحقوق ولا بالعدالة ولا بالإنسانية…
-
المصدر :
- المدن