استذكار بعض دروس التاريخ القاسية، وهي أكثر من أن تحصى، ضرورة وطنية وإنسانية، التاريخ مثلما هو متخم بالحماقات والحمقى والجرائم والمجرمين، لا يخلو من أصحاب النظر السديد والنوايا الطيبة، وهم بالمقارنة أقلّ، لكنهم الثروة الحقة للبشرية رغم ما يصيبهم من تجاهل ونكران. لذلك تخوض البشرية في الدماء أكثر مما تنعم بالحياة. قد يبدو هذا الكلام قديماً ومتعالماً، لكن سبب وجاهته هو في أنه لا يخاطب المثقفين، الذين لديهم رصيد كبير منه، يوزعون منه على غيرهم، مع أنهم الأحوج إليه، بل يتوجه إلى سادة الدول الذين لا يتّعظون ولا يتعلّمون، ويختلقون الذرائع للبقاء بالقتل والتحايل والكذب.
الحاضر لا يحجب الماضي، مهما حاولنا إخفاءه والتعمية عليه. تسري المآسي في الزمن وتكسب الماضي حياة متجددة. تخترق العصور، وتبهظ الضمير. جرائم الاستبداد لا تذهب إلى النسيان، ولا يمسها فقدان الذاكرة، أو يشملها التقادم.
وفي استعادة لمجزرة حماة 1982 من الماضي القريب، لا من الذاكرة، حيث بعض شواهدها ما زالت على الأرض، وحتى التي انطمرت، بدأت تشق التراب والصخر، وتخرج من غياهب الظلام. المؤسف أنها لم تخضع للمراجعة، طالها التعتيم، لا المساءلة، وشكلت جرحاً لم يندمل، وأصبحت جزءاً من تاريخ سوري سري، أليم ورهيب. لم يفكر النظام بعد مضي ثلاثة عقود على القيام بخطوة شجاعة، بإجراء مراجعة وطنية وسياسية وأخلاقية، والعمل على مصالحة تاريخية شاملة. بالعكس استمد منها وحشية جرائمه الحالية، واستثمرها طوال عامين في التنكيل بطلاب الحرية بشتى الأساليب التدميرية ومختلف صنوف الأسلحة حتى المحرمة دولياً، حتى أن مجزرة حماة تبدو تمريناً صغيراً ناجحاً شجع النظام على تكراره، فكان وصمة أضيفت إلى تاريخه، وبات مع التجاهل الدولي وصمة في جبين العالم.
أعلن النظام الحرب على الشعب، لم يدع جريمة إلا وارتكبها. فات الأوان على الإصلاحات المطلوبة، وفات الأوان على المصالحات التاريخية وغير التاريخية. وفات الأوان على الحوار، هذا كله متروك لمرحلة قادمة، الأولى المسارعة إلى إيقاف جريمة بشعة مستمرة على بشر عزل، ترتكب بدعوى القضاء على العصابات الإرهابية. يسهم فيها حماة الديار بقصف الأهالي بالطيران والمدافع والصواريخ، ونهب أخوتهم في الوطن. يستحيل تبرير الجرائم التي ارتكبها بعض السوريين في حق سوريين آخرين، تحت دعوى مؤامرة كونية، أو سطوة شعار عاطفي مختصر بكلمة واحدة: “منحبك”، والمغالاة في المحبة إلى حد السجود للمحبوب وتأليهه، وذبح الأطفال والنساء أضحية له.
هذه الفظائع، حقائق دامغة، ولعنة تورث، تلقي على عاتق الأجيال القادمة إثم ذنوب لم تقترفها، وغير مسؤولة عنها، التحرر منها، ليس بسهولة ارتكابها.
في قادم الأيام، سيشكل التاريخ الذي يصنع الآن، محنة عسيرة ومتجددة لسورية، لن نستطيع نحن السوريين تجميل صورتنا على صفحاته، مهما مارسنا من خداع النفس. في كل محطة طوال نصف قرن، ثمة فضيحة من القهر والدم. لا يمكن تبرير الصبر والخنوع لسلطة كانت تحصي علينا أنفاسنا، ولا التعلل بشعارات زائفة، وتطلعات شغلت حياتنا: التحرير والمقاومة والممانعة، في حين أن النظام لم يحرر أو يقاوم أو يمانع.
سوف نطرح على أنفسنا الكثير من الأسئلة، هذا إذا حافظت سورية على وحدتها، أما في حال جزئت إلى دويلات، فسوف يضاف سؤال آخر، لماذا ترافق تحررنا من الطغيان بتمزيق بلدنا؟ ليتنا لا نتعرض لهذا السؤال، شخصية سورية الحقيقية، لا تكتمل إلا بتعدديتها، وأي تفكير أو عمل يسهم بتمزيقها، يعني التكريس لمأساة ثمنها الباهظ، ضغائن وأحقاد، وعقود أخرى من الشقاء والموت.
-
المصدر :
- المدن