نشط في العقدين الأخيرين نشر المذكرات السياسية في سورية، فتحت على الرغم من قلتها، أبواباً موصدة على التاريخ القريب، أغلبها لشخصيات كانت في دائرة القرار، أو على أطرافها، مارست وظائف في الدولة أو أسندت إليها مهمات سياسية، يزعمون أن لديهم أسرارا حان وقت كشفها…الخ. إضافة إلى ذكريات السجون التي سجلت شهادات مهمة للتنكيل البشع والتعذيب الوحشي الذي عانى منه الاسلاميون واليساريون في اقبية التعذيب والمعتقلات وسجن تدمر.
أسهمت هذه المذكرات على محدوديتها في الكشف عن جانب من الحياة السياسية، بتطرقها إلى التاريخ السوري بعد الاستقلال، وفترة الانقلابات، والوحدة والانفصال، دارت أحداثها في كواليس الجيش والحكومات والأحزاب وتحالفات السياسيين وخلافاتهم، أغلبها لا يتناقض مع الرواية الرسمية، وتصب في صالح النظام، فسمحت بها الرقابة. أما المخالفة منها فنشرت خارج سورية.
لا تخفي المذكرات أن مرحلة البعث واستقرار أمور الدولة بعد الحركة التصحيحية، أن السياسة الخارجية أصبحت شأناً شخصيا للرئيس، وإن لم يُجهر به، يتداوله مع بضعة أشخاص من المقربين إليه على أنهم مستشارون. أما الشأن الداخلي فأوكل لحزب البعث والحكومات المتعاقبة ومدراء أجهزة ومؤسسات الدولة، كان المتنفذون منهم جلهم من رجالات الأمن ومعهم منتفعون تشترى موالاتهم بالمناصب والمال. لم تعد المذكرات أكثر من تبرئة ذمة لما شاركوا فيه، ودفاعاً عن اخطاء وجرائم وفساد ونهب، وأحياناً كانت تسجيلاً لما يعتقدون أنها فترة تاريخية وطنية حفلت بالمؤامرات، كانوا خلالها في الصف الأول من المتصدين لها.
حان الوقت ليكتب الكثير عن مرحلة دامت أكثر من أربعة عقود من تاريخ سورية، تحتاج إلى البحث والتدقيق، لكشف الغطاء عنها، لا يمكن فيها الاعتماد فقط على بيانات الحكومات المتتالية، أو قرارات الحزب الشكلية، ونشرات الأخبار الرسمية، وإنما الاطلاع على ملفات النظام، إضافة إلى نبش الذاكرة، لتسلط الضوء على سياسات كانت تصنع بمعزل عن الشعب، وتُسرب على أنها في منتهى الكمال، صادرة عن ارادة عليا قادرة لا تناقش ولا ترد… تعلن لمجرد الاعلام بما اتخذ من قرارات مصيرية. فتصدر التوجيهات لتأييدها بالمسيرات والتظاهرات والهتافات. لكن للتاريخ شأن آخر بخصوصها.
وبلا ريب، بعد انتهاء الثورة السورية، سيتدفق سيل من الشهادات والذكريات والمذكرات ومن جميع أطراف الصراع ، لا موانع ولا محظورات، إذ لا مكان لهما بعد حرب دامت سنتين ولا يعلم أحد متى ستضع أوزارها. كان أكثر ما يخشى ذكره من قبل حقيقة ما يجري في الخفاء، فكانت الأكاذيب تعنى بإخراجها، بحيث تنقطع الصلة بين ما يظهر في العلن وما جرى في الكواليس. المذكرات دفاع وهجوم، كذب وتضليل، اتهامات وتبرئة، لكن وبالدرجة الأولى اسهام في بناء الحقيقة، بعض الناس يؤمنون بها، عن قناعة أو اخلاص، وربما عن سذاجة، يعملون على كشفها انصافاً وتكرمة لتاريخ بلد لا يجوز تزويره.
لا يضع التاريخ اشتراطات على أصحاب المذكرات من أي طرف كانوا، المهم مواجهة الوقائع المؤلمة، وألا يأخذوا بالاعتبار حسابات قديمة تنتمي لعهد كانت هذه الحسابات سنده، هذا إذا أردنا العثور على مادة قيمة أمينة على البشر والمستقبل. المحك تقصي الحقائق لا تجنبها، بالتالي سيكون التخلص من رهابها، هو الأشد صعوبة.
المؤسف أنه ستغيب عن تاريخ الثورة روايات آلاف الشهداء، وآلاف من ضحاياها على الطرف المقابل من الذين تورطوا في الدفاع عن عمى واخلاص عما لا يدافع عنه، ترى أي تضليل وتهويل مورس عليهم؟! لن يكتمل المسعى الجليل للتاريخ إلا في استيعاب ما يشبه الدرس أو العبرة، هما المقصودان بالذات من ماض هو شديد الايلام. تاريخ يضع الروايات كلها جنباً إلى جنب، لاستخلاص أنه لا منتصر إلا الشعب، وأن حروب الوطن في الداخل، هي الأشد قسوة ومرارة … ولماذا بلغ العداء بالأخوة هذا المبلغ من الحقد والوحشية؟ هل يجوز معرفة هذا السر، إن مجرد محاولة تكهنه سيصيبنا بصدمة، في زمن لسنا بحاجة كي نكره بعضنا بعضاً أكثر مما نفعل اليوم. لكن لابد من معرفته.
مذكرات ما مضى وما يمضي، ستؤسس لما سيأتي.