يعاند الكاتب العربي في البقاء على قيد الكتابة، رغم ما يلمسه من تجاهل، حسب ادعائه، يحقق ذاته، وهو أمر يرضيه. هذا الدافع يفقد مع الزمن تأثيره، فما يرضيه اليوم قد لا يرضيه غداً. عدا أن الذات تحتاج إلى اعتراف الآخرين، فإذا كان ما يكتبه يفتقد إلى تجاوب القرّاء، سلباً أو إيجاباً، فكأنه يكتب لنفسه من دون أن يحقق ذاته.

وقد يكون من الطبيعي انصراف بعض الكتّاب إلى ما يدعى بوسائل التواصل الاجتماعي، مثّل فيها الـ”فايسبوك”، متنفّساً لهم في الدعاية والانتشار، بما يتلقّونه من ردود فعل الأصدقاء والمعارف على كتاباتهم، شكّل في البداية مجموعات، كانت قواعد استجرّت قرّاء قد يصل تعدادهم إلى بضعة آلاف، هم عرضة للزيادة والنقصان، كانوا تعويضاً عن بضع عشرات أو مئات من القرّاء المجهولين، منحت الكاتب شهرة عريضة ضمن حدود المجموعة نفسها، حسناتها وسيئاتها، أن الكاتب يصيب قدراً جيداً من المديح الزائد، كما يتعرّض لقدر لا بأس به من النقد الجارح والمسف أحياناً. فهناك من يتحيّز له، وهناك من يتصيّد زلاته، ويؤوّل أفكاره حسب مراده، ويصبّ جام غضبه عليه.

الكتابة على الـ”فايسبوك” ليست بديلاً عن الكتاب. وإذا أردنا الكلام عنها، فلنودع الأدب، ولنتكلم عن الكتابة، أية كتابة كانت. وبالتالي ألا نأمل منها أن تكون تعبيراً كافياً عن الذات، وإن كان عفوياً، فهي لا تزيد عن تعليقات وخواطر من بضعة أسطر، أو تنزيل مقال لا يزيد عن صفحة واحدة، والأفضل أقل. مرتاد الـ”فايسبوك” مبرمج على التنقل السريع من تعليق إلى آخر، ونادراً ما يتّسع صبره لقراءة مقال من عدة صفحات. الفايسبوكيون يريدون أخبارا سريعة، معلومات مختصرة، خواطر جذابة، الوصول مباشرة إلى الفكرة، وعلى أن تكون واضحة. هواة الفيسبوك يتعيشون على الأخبار أكثر من المناقشة الجادة لأفكار عميقة. إن ما يُطرح فيه من مسائل وإشكالات، إذا اتسع لها صدر القلة، يتأفف منها بالمقابل الكثيرون، عادة يهملونها. تتسع صفحات الـ”فايسبوك” للكثير من المتناقضات وبلا شديد حرج. فيطالعنا سيل جارف من الغث والسمين، الأغلبية يرومون التسلية، وبعضهم جاد، وحتى في جدهم يرغبون في الترويح عن أنفسهم.

يفبرك الـ”فايسبوك” تجمعات مخادعة غير متجانسة، لا يجمعهم جامع سوى تبادل الإعجاب. ومثلما تحتوي على محبي الاطلاع والاجتماعيين والفضوليين، تغصّ بعشاق النميمة ومروّجي الفضائح، وزارعي الشقاق، ومطلقي السباب والشتائم، وفي بعض حالاتنا اليوم؛ دعاة التخوين السياسي والسحق حتى العظم. أما المجموعات المنغلقة على أعضائها المختارين، فتكتفي بما تنتجه؛ ثقافة محدودة مكتفيه بذاتها، مهما كانت حيوية فهي ضيقة الأفق، إذ بالاصطفاء لا تعترف بالآخرين. ما يذهب بها الى اجترار أفكارها، واستيلاد بعضها من بعضها. وهؤلاء دائماً مهما طالت مغامرتهم يرتدون إلى العالم الحقيقي هناك آفاقهم، ويأوون إلى الكِتاب صديقهم الأثير.

تنحسر الذات في هذا العالم الجاحد للفرد، لتتقوقع في صفحة على الـ”فايسبوك”، وكأنها امتلكت فضاء تثرثر فيه، يعوضها عن الفراغ والوحدة والملل، بالدخول الى عالم افتراضي، لا يمكن الانغماس فيه، إلا بالاعتقاد أنه يحقق لها ما ينقصها من نعمة التواصل الإنساني، وفي هذا افتراض نتخيل فيه، ما نفتقده، وهو الإحساس بالبشر، والإحساس بأننا بشر. وما استهلاك الـ”فايسبوك” للكثير من الوقت إلا تلك الحاجة الملحة للاستزادة من هذا الإحساس الذي يمسّنا دون أن يسري في دمائنا.
ربما في تحجيم مساحة الـ”فايسبوك” في حياتنا، تحجيم للهدر في تخيلاتنا. القليل منه لا يؤذي، بل مفيد، وفي تضخيمه مهزلة لا تسدّ حاجة، ما يجنيه أصحابه المتفائلون والمخلصون له، هو ظفر كاذب، ما دام هذا الطراز من النجاح لا يزيد عن حصد أكبر كمية من “اللايكات”.

ما يحققه الـ”فايسبوك” من تواصل عابر هو إنجازه الجميل، أما بناء صداقات، والأسوأ عداوات، فمخاطرها أن الصداقات لا تستمر، والعداوات تصمد. إذ لا بدّ من دفع ثمن الشطط في الاعتماد على مجرد افتراض.