ينظر الرأي العام في الغرب، إلى أي حدث لا من حيث تواجده على الأرض، بل من حيث المساحات التي يحتلها في وسائل الاعلام. عدا هذا فهو غير موجود. لذلك كان ظهور “داعش” الصاعق واحتلالها الموصل، وتقدّمها في الداخل العراقي، وسيطرتها على مواقع سورية جديدة، نقلة هائلة بالنسبة للمراقبين، بالمقارنة مع الوضع السوري الذي استنقع في ظرف اختصر بالبراميل المتفجرة وقتلى مدنيين، يحيط بهم تجاهل دولي تابع صمته وأتقنه بلؤم.
الوضع الدراماتيكي الذي فرضته “داعش” باندفاعتها، وإعداماتها الارتجالية المصوّرة، كان فرصة لانتقال الاهتمام الإعلامي الحائر إلى العراق، معزّزاً بفوبيا الشبح الإسلامي المرتدي الأسود والمدجّج بالسلاح من السيف إلى الدبابة. منذئذ لم تكف العراق عن طلب النجدة، الكثير من الدول تبرّع بمؤازرتها، لكن ليس بنجدتها، وبات يخشى أن تتحوّل مأساة العراق المتجدّدة التي أسهم فيها عدم التوافق العراقي، إلى لعبة يتجاذبها الإيرانيون والأمريكان، وإلى حد ما الروس الذين ينتظرون تلكؤاً أمريكياً مفضوحاً هذه المرة، تستعاد من خلاله على نحو مماثل المأساة السورية التي باتت في مؤخرة الأخبار.
وضعت “داعش” دولتها على خريطة قابلة للمتغيرات تمليها الخلافة التي عادت إلى الحياة، وأثبتت أنها خطر متسارع لا يستهان به، ووضعت الغرب أيضاً أمام ظرف غير ملائم لا يتيح له دفع العراق إلى الاستنقاع في المجازر والتهجير، الإعلام اليومي لهم بالمرصاد، بينما الوضع السوري ارتقى الاعتياد عليه إلى وضع مثالي، استثماره يطول، بعد توافر عناصر تضمن استمراريته على الأرض من خلال توازن اللاغالب ولا مغلوب، أسير معادلة صفرية إلى أمد غير معلوم.
لم يعد بالوسع تجاهل “داعش”، حتى خلال الهجوم الإسرائيلي على غزة، بعدما انتقل الاهتمام إلى فلسطين، التي تشكل عامل جذب للإعلام العالمي، فإسرائيل و”حماس” مادة مشوقة للصحافة، وأيضاً للسياسة الأمريكية لتؤكد التزامها باسرائيل عدوانية لها الحق بالقيام بما تشاء ولو قتلت الأطفال عمداً أو بالخطأ، الموقف الإنساني لم يتعد منع قتل المزيد منهم. ما أسهم في تبريد الاهتمام قليلاً بالعراق، لكن ليس بوسعها الانتظار. حتى بعدما بدأت معركة عرسال على هامش الأزمة السورية، جرى تصعيدها لاستنفار الأطراف كلها ضد وجود النازحين السوريين، وتعالت أصوات لبنانية طالبت بعودتهم إلى بلادهم، الحل لا ينجح إلا بطردهم، وباتت الوساطات رأفة بالمدنيين متعثرة. هذا الوضع العابر لم يسمح بإعادة القضية السورية إلى الإعلام، ما زالت معزولة عن ساحة لديها أولويات كثيرة ليست من بينها. من هذا الباب، لن يسمح بالتركيز على قصف مخيماتهم، وإيقاع قتلى وجرحى بينهم، ولا منع النظام السوري عودة ألفي نازح بين امرأة وطفل إلى سورية.
الإعلام جواز تمرير الصمت على الأزمة السورية، وفي غيابها عنه، يبدو كأن لا شيء يحدث في سورية، مع أن مجازر “داعش”، وطلعات طيران النظام لم تهدأ، ومثلهما الهاون الذي طال الأحياء الدمشقية، حرب يدفع المدنيون أكلافها الدموية، الوضع نفسه، لكنه لم يعد مثيراً للإعلام، ما دام أن الدول لا تهتم به. بينما شكّل الوضع العراقي المتردّي ذخراً طيباً للإعلام، ليس لأن “داعش” تزوده بالرؤوس المقطوعة، وتهجّر المسيحيين والايزيديين، وإنما لتعالي التصريحات الغربية من الفرنسيين والأمريكان المندّدة بـ”داعش” والمهدّدة بالقصف. بالنسبة للإعلام، الأقليات لا سيما المسيحية، مغرية كقضية تبرر التدخل؛ إنها الحرب العادلة، مع أن الأزمة السورية لا تنقصها هذه الحوافز، لكن صدر الإعلام لا يتسع للمزيد، فاستمر تجميد الوضع السوري الساخن، القابل للتجميد المديد.
لا جديد، في أن وسائل الإعلام قوة مؤثرة، وإذا انحازت للدول، فمن العبث توخي الإنسانية، إلا عرضاً ومصادفة، وفي هذا فائدة غير مقصودة للبشر المشردين والمهانين والمسحوقين بحرب مجنونة لا يد لهم فيها. في الوقت نفسه، لكي تنال أية دولة أو عصابة أو مجرم البراءة، يكفي إبعاد أنظار العالم عنهم، ولن يضن عليهم الإعلام الحرّ بسحب دليل الاتهام من التداول. أما الضمير العالمي فيكفيه اللغو في جلسات مغلقة أو مفتوحة، طالما لا أحد يستمع إليه، ولا جدوى منه.
-
المصدر :
- المدن