تشير الخلاصات التي توصل إليها الطرفان في جنيف، بعد ثمانية أيام من المفاوضات الشاقة، إلى ما تحقق خلالها في البيان المصاغ بأسوب دقيق جداً. ففي النقطة الأساسية بخصوص “تنفيذ بيان جنيف من ناحية الاتفاق على نهاية شاملة ودائمة للصراع وعلى تأسيس هيئة حكم انتقالية بصلاحيات تنفيذية كاملة”، يقول البيان: “إن الطرفين يعرفان، غير أن المعرفة غير كافية، إن لم تؤسس للفعل”. وفي فقرة أخرى: “يفهم الجانبان أن الشعب السوري يتوق الى سورية ديموقراطية حيث الحكم شفاف ويخضع للمحاسبة على اساس معايير حقوق الانسان وسلطة القانون”. يتضمن هذا افتراضاً للفهم لا شك فيه، لكن أي نوع من الفهم يا ترى؟ لا سيما وقد عانى الشعب السوري من هذا الفهم؟ لن نتوقف عنده، ومثله إيمان الجانبين بأن “مستقبل سوريا يجب أن يقرر من قبل الشعب السوري، رجالاً ونساءً، عبر أساليب سياسية”. من الممكن أيضاً تجاوزه، ولو كان محل شك كبير يحتاج الى اختبار، في حين أن الاختبار الأكبر وهو الواقع، ينفيه ويكذبه.

في الوقت نفسه، يدل البيان إلى اتفاق بين الطرفين حول هذه المواضيع الأساسية، لا سيما أنهما يدركان أن الصراع في بلدهما أدى الى معاناة غير مقبولة للشعب السوري. ويعترفان بالحاجة الملحة لانهاء العنف والتطرف، رغم أن البيان ليس له سوى الأمل بمضاعفة جهدهما لخفض مستوى العنف على الارض في اقرب فرصة، والمسارعة إلى معالجة مواضيع المعتقلين والمخطوفين والمختفين، ما يبقيها في حدود الأماني والتمنيات التي لا بد، مع الأسف، من التعويل عليها.

لم يرفع الوسيط الدولي من توقعاته كثيراً، إلا من ناحية أنها بداية متواضعة يمكن البناء عليها. أما ما انجز وبامتياز فهو جلوس الطرفين قرب بعضهما البعض في الغرفة نفسها، وأهميتها تكمن في اعتيادهما على ذلك، وانخراطهما في النقاش بأسلوب مقبول، ما يؤكد أن الأزمة السورية وضعت على سكة السياسة. المؤثر أن الأزمة التي استفحلت لم تعد تفتقر إلى الشجاعة في التصدي لها بهذه الروية، بالنظر إلى ما بلغته المرحلة من اسقاط لجميع المحظورات في الحروب، وتجاوزاتها في القتل والتعذيب والتدمير. بحيث أن انطلاق قطار الحل السياسي، يوحي بقطار محمل بالقنابل الموقوتة، قد تنفجر في أي لحظة، وعلى من يقوده السير بحذر وتؤدة شديدين، خشية خطأ أو زلل قد يطيح بالجهود والآمال والنوايا. المبشر أن ما حصل هو اختراق على جميع المستويات سياسياً وعسكرياً وميدانياً وإغاثياً.

لا داعي للتشكيك في هذا الحدث، ولا انتهاج ما صار عادة لدينا من تبخيس للأشخاص والجهود المبذولة، بحجة النقد الحر. بحسب الكثير من المراقبين والمتابعين والمحللين السياسين، والذين يتميزون بالنظر البعيد والتنظير الدقيق، ربما يكون ما تحقق عظيماً وخطوة واسعة إلى الأمام. هؤلاء لا يأخدون في الاعتبار الحدث فقط، بل ودلالاته الاستراتيجية ومصالح دول الجوار والوضع الاقليمي والدولي.

من الجانب الآخر، على أرض الواقع، هناك المعنيون فعلاً بما يحدث، والذين يدفعون أثمان هذه المفاوضات. فمنذ بدئها حتى نهاية المرحلة الأولى منها، لقي نحو 1900 شخص مصرعهم. أما هؤلاء الذين لم يخسروا حياتهم بعد، فهم تحت القصف، مهددون بالموت، بعدما خسروا جناية عمرهم كلها، وفقدوا عائلاتهم وأحباءهم وأصدقاءهم ومعارفهم، حتى لم يعد لديهم ما يفقدونه. بينما النازحون والمشردون واللاجئون، يتمنون الموت عوضاً عن حياة بائسة يعيشونها، فهم معرضون للبرد والحر والفاقة، ولتشويه سمعتهم بإشاعات كاذبة، والحط من كرامتهم بالجري وراء المساعدات، ولو كانت انسانية. لا تعني محادثات جنيف لهؤلاء المنكوبين سوى مؤامرة، جريمة، مماطلة، ثرثرة تافهة، ميوعة منحطة… كل ما يأملونه أن يعودوا إلى مدنهم وقراهم، وبيوتهم التي سويت بالأرض، كي يدفنوا موتاهم، ويضعوا حجر الأساس لحياة أخرى ستبنى بالعرق والدموع.

إذا لم يكن جهد جنيف ضائعاً، في عرف السياسة التي انتهجها الكبار، فالمحطة المقبلة، وما سيليها من محطات، إذا كانت على هذا المستوى من التسارع، تعتمد على وقود معطل، طالما الطرفان: يعرفان، يعترفان، يدركان، يأملان… وما يُرجى من تقدم لا يتجاوز هذا النمط، إن لم يترافق بالالزام والالتزام. فسكة السياسة التي هي سكة السلامة كما يؤمل منها، وكما جرى الدفاع عنها والايمان بها، إلا أنها ذاهبة إلى المزيد من المناورات والضحايا.