عشية الحرب العالمية الأولى، اعتقد الناس أن الحرب لن تطول أكثر من أربعة أشهر، لكنها امتدت إلى أربع سنوات، وخلّفت وراءها امبراطوريات أوروبا الكبرى منهارة، ودماراً عمّ البلدان المحاربة، وعشرات الملايين من القتلى والجرحى وأصحاب العاهات. كذلك اعتقد الكثيرون ومعهم محللون في بدايات الحراك السوري، أن المظاهرات ستعطي نتائجها الإيجابية خلال بضعة أشهر، وأن نظاماً جديداً سيخلف القديم، فإذا بها تمتد إلى سنوات، ها هي تدخل سنتها الرابعة، من دون أي افق بنهاية تضع حداً لعذابات السوريين. أرقام القتلى والمهجّرين إلى تصاعد، والدمار إلى دمار أكبر. لم تكن الحالة، مثلما هي اليوم، تنحو الى اللايقين، حتى أن الحرب تبدو بلا نهاية.

الحراك السوري، الذي بدأ بشكل عفوي، وارتقى إلى انتفاضة، فثورة، ثم انحدر وتشرذم مع الدخول المظفر للجماعات الجهادية إلى كتائب متقاتلة، أعقبها محاولات للجيش الحرّ لالتقاط أنفاسه، وإعادة هيكلته. لا ضمانة فيما إذا كانت ستنجح الجهود المتلاحقة في إعادة الثورة إلى صوابها، أو في توافق المعارضة على أجندات واحدة، من دون خلافات على المناصب والحصص، ففي استباق القسمة، إلغاء للمعارضة، وانتهاز لفرص لم يحن أوانها.

بعد ثلاث سنوات، بات من الممكن التشكيك بكافة هؤلاء الذين اعتقدوا بفرص مفوتة، على رأسها سلمية الانتفاضة، بدعوى خسائرأقلّ بالمقارنة مع ما حصدته آلة القتل المتنوعة من البندقية إلى البراميل المتفجرة، فحسب تقديراتهم، كانت الأنجع في إسقاط النظام، أو مهادنته والتفاوض معه، والقبول بإصلاحات تشي بتنازلات. اليوم تبدو كافة الاقتراحات باطلة. بعدما استعيدت فكرة السلمية والتفاوض والإصلاحات من خلال الديبلوماسية في جنيف، سعياً إلى حلول تنبذ السلاح تحت إشراف دولي. في وقت أصبحت حالة البلاد، أحوج إلى الأمان والسلام، ليس الآن فقط، بل منذ أكثر من عام ونصف، بعدما أمسى النظام والمعارضة في طريق مسدود، ولم تعد الحرب إلا حرب مواقع، وحواجز، وكرّ وفرّ، حصيلتها الصفر، مع خسائر هائلة يتكبدّها الطرفان، ليس من حساب القائمين عليها، بل من الأهالي المدنيين، وأعوان النظام المغرّر بهم.

في ظل هكذا استعصاء، تبدو الحاجة ماسة إلى وقفة للسوريين مع الذات، فالحرب بالأساس بينهم، والعدد الأكبر من الضحايا منهم، أما الجهاديون والمرتزقة الطائفيون، فممولون وضحاياهم تشترى بالمال، أما ذوو النوايا الانتحارية، فمكسبهم في الجنة محفوظ، إذا صدق جهادهم، وفي هذا أقوال لا تسرهم.

إذا كانت الأزمة سورية، فالحل سوري، بالدرجة الأولى والأخيرة، وإلا ستبقى الحرب بين الأخوة الأعداء مستمرة إلى ما شاء الله، لا يردعها رادع، ما دامت الدول تشدّ من أزرها، لتبقى مشتعلة رمزاً للديكتاتورية والسلاح والمعارضة والجهاد في حالة اشتباك خاسر، عبرة لكل من تسول له نفسه، التفكير بأن المظاهرات والاحتجاجات تأتي بالربيع.

ما يحجب الوقفة مع الذات، بات عقبة حقيقية، فالروس والأمريكان والأوروبيون، ودول الجوار وتحالفات المنطقة، تمنع أية تسوية من دون النظر إليها من خلال مصالحهم، بحيث ينبغي على السوريين أخذها بالاعتبار، لكن أيها؟ كل منهم من ينظر إلى سورية، مع التمييز بينهم، كجزء من استراتيجيته، أو طموحاته الإقليمية، أو مذهبيته، أو حديقته الخلفية… أي سورية، كملحق لمشاريعه المستقبلية.

يستحق هذا أن يفكر السوريون ببلدهم، وهي العقدة الأصلية، من دونها لا حلّ إلا بالتأكيد على الوقفة مع الذات ومواجهتها، غير أن الذات المنقسمة، لا ترى نفسها في مرآة الواقع، إلا ليتجاهل كل طرف الآخر وينكره. لن يتحقق رأب الصدع بينهما إلا باستعادة الوعي بالكارثة. عندها يدرك السوريون أنهم إنما يدمّرون بلادهم، ويغامرون بمستقبلهم ومستقبل أولادهم. إذ في انقسام الذات وغياب الوعي، ذهبت تداعيات الأزمة إلى مشهديات متوحّشة، والأسوأ أنها مشينة، لا حلّ لها إلا بما يفرضه الخارج.
\\ كاتب سوري \\