الهجرة إلى “داعش”
حتى الآن لم تُفهم على وجه الدقة حقيقة “داعش”، هذا بعد مرور عام وأكثر على ظهوره، وبضعة أشهر على اجتياحه الموصل، وتمدده في العراق وسورية. فما يحيط به من مبالغات، يحجبه عن الفهم، مع أن ما يفعله كاف ليعطي فكرة وافية عنه من خلال ممارساته القاسية في الدعوة إلى الخضوع لدولة الخلافة. المشاهد الوحشية تبدو بلا أسباب مباشرة، وكأن القتل للقتل، إلا إذا اكتفينا بأهدافه بعيدة المدى في تثبيت أركان الدولة الإسلامية. فالأخبار غالباً تقتصر على ما فعله “داعش” من ذبح وإعدامات وقطع رؤوس، أحياناً بالمئات وأحياناً أخرى بالعشرات، حسب المتوافر من الضحايا، فالقتل لابد منه، بحيث يبدو “داعش” كائنا غرائبيا ينتمي إلى فصيلة مصاصي الدماء، أو وحوش الغابات، والقتلة العشوائيين. هذه الصورة يروجونها هم عن أنفسهم ايضاً في الأفلام المصورة، الهدف بث أكبر قدر من الرعب، ويعمل الاعلام العربي والغربي على تضخيمها بتكرار عرضها.
يطالب الغرب المسلمين في انحاء العالم بإدانة أي حادثة إجرامية إن كان الفاعل مسلماً، الصمت عنها يعني أنهم متواطئون معها، أو تروق لهم، فلا يكفي أن تعلن بعض الجهات الرسمية استنكارها، وهو الحاصل دائماً، وإنما يجب أن يعلن العالمين الإسلامي والعربي بما يضمه من مؤسسات وهيئات معنية على طول العالم وعرضه استنكاره على مدار الساعة، بالتبرؤ منها، أي أن تقوم هيستريا جماعية كي يصدق العالم الرفض القاطع لهذا العمل الذي يعتبر جهادياً، وكثيرا ما وضعت في دائرة الشبهات جهات لم تقم بالاستنكار الواجب.
لكن ما حصة الغرب من الجهاد، ألم يسهم في هذه الظاهرة، خاصة وأن الاعلام الغربي بات يركز في الآونة الأخيرة، على المتحولين في مجتمعاتهم إلى الإسلام، الذين ولدوا وتربوا في عائلات غير مسلمة، ومروا في مراهقتهم بالظروف المعتادة للشبان الغربيين، وربما قادتهم حياة الليل المضطربة إلى الإدمان على الكحول أو المخدرات، وسوابق في اللصوصية، وتجاوزات مترافقة بالعنف… ثم الهداية واعتناقهم للإسلام، والسفر إلى دولة الخلافة؟ ينظر إليهم الغرب على أنهم أصيبوا بعدوى الجهاد، مرضهم مستعص، وغير قابلين للشفاء، ولا عودة إلى بلدان الغرب منعاً لانتشار العدوى.
هذا في الوقت الذي طرأت فيه على الجهاد متغيرات في تركيبته، بسبب الهجرة إليه، فأصبح يضم تشكيلة واسعة من الشبان الجامعيين، بعضهم من ذوي الشهادات العالية، بتخصصات مختلفة؛ أطباء، مهندسون، أخصائيو كومبيوتر… وفي مثال البروفيسور حسن كونكاتا السفير الياباني السابق، والمتحول منذ عقود إلى الإسلام، وانضمامه إلى “داعش” بالذات، ما يحير العقل، ترى هل السبب أطروحته حول “النظرية السياسية عند ابن تيمية” في ثمانينات القرن الماضي، وجدت تعبيرها في هذا القرن في الدولة الإسلامية الناشئة؟
لا تقتصر الهجرة المعاكسة على الرجال، فقد تزايد التحاق شابات غربيات مسلمات بالجماعات الإسلامية المتطرفة، كمقاتلات أو زوجات مقاتلين. تقدر نسبتهن بنحو 10 في المائة من الغربيين المسلمين، وفاقت أعدادهن خلال العامين الأخيرين المائتين، منهن 60 بريطانية و70 فرنسية، معظمهن في العشرينيات من أعمارهن، نحو ربعهن غادرن مع أزواجهن أو أشقائهن أو آبائهن. مؤخرا دار جدل واسع في إسرائيل بشأن الفتاة الفرنسية اليهودية التي انضمت إلى “داعش”، وكانت خططت لشن هجوم إرهابي ضد والدها ووالدتها، حيث يملكان متجراً في وسط العاصمة الفرنسية باريس!!
يُشخص الغرب هجرة النسوة بمعاناتهن اضطرابات نفسية. بينما تقوم شبكات التواصل الاجتماعي الجهادي بجذبهن بتصوير الحياة في الدولة الاسلامية على أنها مثالية، بتقديم البديل الديني لعيشهن في الغرب، من خلال ترويج صور للجهاديات في أرديتهن السوداء، يطبخن، ويعتنين بأطفالهن، أو يتبادلن الأحاديث الدينية، إلى جوار صور لمقاتلات يتدربن على السلاح، أو يحملن البنادق الأوتوماتيكية، ويتزنرن بالأحزمة الناسفة.
“داعش” يعرف ما يريد سواء على أرض المعركة، أو في المطابخ والخدور، بقي على العالم أن يعرف ما الذي سيفعله إزاء ظاهرة تتنامى وتجد اقبالاً متزايداً، ويأتيها المتعاطفون معها من ارجاء العالم، ليس للسياحة، بل للقتال معها حتى الموت.
يعتقد الغرب أن “داعش” مشكلة الإسلام، على أساس أنه دين يعادي قيم الحداثة، بينما الهجرة المتزايدة إليه تعني أنه مشكلة العالم كله، وإن كان في العمق مشكلة إسلامية تعني العرب بالدرجة الأولى. طبعاً الحل إسلامي عربي، الا إذا تخلينا عنه للسياسات الغربية، ولهوليود التي بدأت في استثمار “داعش” سينمائياً، ففي صورته الحالية ما يلبي أمزجة رواد أفلام الحرب والرعب.
-
المصدر :
- المدن