بعد نحو أربع سنوات، يبدو كأن المنطقة رغم الحروب التي تشهدها، عادت إلى سابق عهدها، فالاحتجاجات والمظاهرات، أو الشغب والاضطرابات، أو ما يشبه الثورات والانقلابات، مضت في سبيلها إلى حيث استقرت في الذاكرة. النتيجة؛ الثورات أخفقت، والانقلابات أثمرت. بمعنى أن الثورات الكاذبة لم تنجح وإن ردت إلى مؤامرة خارجية، في حين اعتبرت الانقلابات ثورات حقيقية تمت بفعل ضغوط شعبية. المفارقة، في أزمنة سلفت، كانت المؤامرة تنتصر، والشعب ينهزم.

هذا التطور النوعي المتراجع، أدى إلى عودة البلاد إلى ما كانت عليه، بالضبط إلى أسوأ مما كانت عليه. مظاهره، الانقسام المجتمعي، الاحتراب الأهلي والطائفي، تفكك البلاد، عودة الدكتاتورية ظافرة، بصورتها الأنصع وبلا حياء، تعدد صور الإسلام (العنيف، المقاتل، المطارد، المشوه، المظلوم) تفاقم الأحقاد والكراهية…. بلاد في حالة تخبط وفوضى، أو مخاض. سيفصل فيه المستقبل الذي سيتأخر عن القدوم.

لن نوصّف ما جرى بـ”الثورة”، لخلافات على التعريف، فالحدث السوري كما يتهم، لا يقارن بالثورة الفرنسية أو الروسية. فلا أشباه لعامة باريس والقساوسة والنبلاء، ومارا ودانتون وبروبسبير، ولا القيصر والبلاشفة، وتروتسكي ولينين وستالين. الشبه الوحيد هو أن ما يدعى بالثورة السورية التهم النظام أبناءها من الشبان المسالمين. أما أبناؤها المسلحون، فالتهمتهم الثورة نفسها. لذلك لا يجوز أن نطلق عليها سوى: نوايا النزوع الرغبوي إلى التغيير نحو الأفضل، وإن كانت الرغبة في اتجاه والنزوع في اتجاه معاكس، لكن الأمور بخواتيمها، أي ما يقرره المجتمع الدولي، أو الغرب وعلى رأسه أمريكا، وربما روسيا، وعلى الأغلب إيران. السوريون المتحاربون لا رأي لهم، يتقاتلون فقط.

والحق يقال، بعض المحللين من منظار آخر، أخذوا الواقع بالاعتبار، وجدوا أن الوضع السوري، كان ثورة حقيقية، غدرت بها عدة جهات، فقد اتفقت إيران وروسيا ضد تطلعات السوريين، وخانها دعاة الديمقراطية: “أصدقاء سورية”. ووقف ضدها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، مع أن الآمال كانت كبيرة بالرئيس الأسود، لم يدركوا أن منصب الرئيس الأمريكي لا لون له، لون السلطة واحد، القهر والدجل، تبررهما استراتيجيات بعيدة المدى. كذلك المعارضة أعطيت ثورة، لم تحافظ عليها، وكانت لا تستحقها.

يعزو الغرب الإخفاق الحاصل في المنطقة إلى أن الشعوب العربية غير مهيأة للتغيير، والأفضل تأجيله إلى أجل غير مسمى. الأنجع، التفكير بتعديلات لا تمس عصب الأنظمة، هذه الشعوب اعتادت على الطغيان، لا تستطيع أن تصنع أقدارها، وعندما أتيحت لها الفرصة، صنعت أقدارها السيئة التي أعادتها عشرات السنين إلى الخلف، وفي الحقيقة إلى أكثر من ألف سنة، تفسره الميليشيات المذهبية، وخلافات دينية تتحاور بالأسلحة. الواقع أكثر قدرة على تفسيرها، فالبلاد التي أتيح لها أن تتنفس، بعد طول اختناق، لم تنتج سوى “داعش” و”النصرة” ومئات من الفصائل الأصولية المقاتلة، همهم الأول إعادة هيكلة التدين السوري. أما المعارضة التي انتظرت أربعين عاماً هي الأخرى ليعلو صوتها وتتحرك، قدم لها الشعب مظاهرات عمت أرجاء سورية، في حين كانت لا تستطيع أن تجمع مظاهرة لا يزيد عددها عن العشرات كل فترة طويلة من الزمن. لم تستطع أن توحد صفوفها، وتتواصل مع انتفاضة الداخل، وغرقت في خلافاتها حول المناصب، لم يقنعها مئات الآلاف من الشهداء، ولا الدمار الحاصل ولا ملايين النازحين… على انهاء خصوماتها، ودائماً من شدة ضراوتها، كأنها لم تغادر مراحلها الأولى.

أعاد النظام السوري بصموده الأمور إلى نصابها، فهو على خلاف الأنظمة كلها، استشرف لحظات الهبة الشعبية، وأخذ يستعد لها منذ استيلاء الأسد الأب على السلطة، وسواسه الشعب، فكانت تجربته الدموية في حماه. ولقد أتيح له خلال السنوات السابقة، أن يقدم أنموذجاً أشمل سيُحتذى في المنطقة، بمباركة المجتمع الدولي. هذه الشعوب لا تترك لهواها، لا تأتي إلا بالقوة. وهو درس بليغ للغرب عسى يستفيد منه ويقلع عن التهديد بتغيير الأنظمة، ولو لمجرد اللغو.