منذ أعلن عن الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني سال حبر كثير، سبقه أيضاً حبر كثير، فالمنطقة انفتحت مجدداً على المجهول الذي كانت فيه، بشكل أكثر ضراوة، المتوقع دماء كثيرة، إضافة إلى بحر الدماء الذي تغوص فيه. الأمريكان وهذا ليس سراً، سيتركون بلدان المنطقة تتقاتل، على النهج نفسه، القضايا المعقدة تستلزم استنزافاً دائماً، وستبقى إسرائيل في مقاعد المتفرجين، فالأمر لا يعنيها على الرغم من تصريح نتنياهو أن الاتفاق الايراني “خطأ تاريخي”، الصخب الذي أثاره، سيستمر ولن يفتر، وسوف يستثمره لسنوات قادمة، ودائماً مع التلميح الصريح الى امكانية اللجوء للقوة العسكرية، مع أن الاتفاق يصب في مصلحة إسرائيل.
قيل إنه اتفاق تاريخي، وعُلقت عليه آمال بولغ بها عن قصد؛ إيران ستنتقل دفعة واحدة من ضفة إلى ضفة، وكأن الانتقال من النقيض إلى النقيض لا يزيد عن الغاء أوصاف ونعوت تقلب “محور الشر” إلى “محور الخير” و”الشيطان الأكبر”، إلى “الملاك الأكبر” الأمر لا يعدو أكثر من شطح في قاموس السياسة المتبدل، ولن ينقل المنطقة من عالم الحروب المندلعة إلى مرحلة التسويات الشاملة، مهما أتقنت أمريكا صياغة الاتفاق فلن يحول إيران من دولة لا تعبأ بالمجتمع الدولي إلى دولة مدجنة حسب المواصفات الأوربية الأمريكية.
التساؤل الذي يطرح نفسه، ألن توظف إيران بعض المليارات التي سيطلق سراحها في تقوية نفوذها في المنطقة؟ يتوقع القليلون حسنو النية أن إيران ستندرج في النظام العالمي، وتتنازل عن طموحاتها الإقليمية لئلا تعطل تجديد بنيتها التحتية وتقدمها الاقتصادي، ولن تخسره لقاء دعم النظام السوري وتحريض حزب الله على التدخل، كذلك الحوثيين في اليمن. حسب كلمة الرئيس روحاني التي أعقبت الاتفاق: إنّ الاتفاق النووي هو بوابة الحلول لكافة الأزمات وأنّ الحوار هو الحل.
إذا كان المطلوب من العرب التحلي بالواقعية، فالحوار الجاد، يعني أن تنظر إيران ايضاً بواقعية إلى المنطقة الذاهبة الى الدمار، وفيما لو بقيت الحال على ما هي عليه، فالأضرار لن تستثنيها. الاتفاق خطير ويتشاءم منه الكثيرون خصوصاً العرب، إلا إذا استطاع الإيرانيون أن يجعلوه فاتحة سلام واندفاعة نحو البناء لا الدمار، وإن بدت حالياً مجرد آمال في فراغ؛ إيران خامنئي لا تضع حدوداً لطموحاتها الإقليمية. غير أن للحقائق لغتها، هل تريد إيران الانغماس في حرب المائة عام، لتدرك بعدها عبث السيطرة على جيرانها تحت أي دعوى تحررية أو مذهبية أو مظلومية؟
الاتفاق بالنسبة إلى العرب مفتوح على احتمالات متعددة، والمحك هو سورية، الاحتمال الأكبر أننا ذاهبون إلى المزيد من الخراب، إلا إذا كان واقع المنطقة المؤلم والآخذ في التدهور، يشكل دليلاً لم يعد ممكناً اغفاله، ويحفز الوعي للعمل على رأب الصدع الحاصل بين بلدان المنطقة، وتجسير الهوة بين إيران والعالم العربي، وتحييد النزوع الطائفي والمذهبي عن صراع سوف يطوى فيما لو أبدت إيران نوايا طيبة، لكن كل هذا مستبعد بالقياس إلى ما سبق، وما يطلق من تصريحات.
الواضح أن الخيار في المنطقة لإيران وليس للعرب، ولهذا التوقعات ضعيفة بإنهاء الأزمات المتولدة عن الربيع، لكن إذا كان العالم يطمح إلى انهائها، فلابد من إلزام إيران بالحوار، عوضاً عن الذهاب إلى مغامرات قد تكسب من ورائها الكثير، لكنها ستفقد في ما بعد أكثر. وتبدده على ما لا يفيد إلا في جعل دائرة الأعداء تتسع وتتعدد، هل يمكن المراهنة على هذه الأخطار؟ المؤسف أن البصيرة لا تعمل أحياناً في الأوقات الصعبة، فما بالنا في الظروف المخادعة التي تبشر بسلسلة من الانتصارات.
نجحت الدبلوماسية في اجراء مفاوضات أدت إلى حل أزمة كبرى، كادت أكثر من مرة أن تؤدي إلى الحرب، وهو امر جيد، لكن نجاحها لا يقاس بمدى حاجة الطرفين إلى حل جزئي، وإنما في انسحاب الدبلوماسية على أزمات المنطقة، بحيث يصبح التفاوض بديلاً عن التقاتل في بلدان كانت مؤهلة للربيع فإذا بها تذهب إلى الجحيم. في هذا الجحيم يقاس نجاحه ومدى تأثيره، في أن يكون السلام حصيلته، إلا إذا فصلنا الاتفاق عن أزمات ليست بمعزل عنه، ما يجعله يرتد بشكل سلبي على الجميع، ويزود الحروب بوقود إضافي لن تخمد طوال سنوات قادمة، جدواها الوحيدة مئات آلاف الضحايا.
حقق الأمريكان انجازهم الدبلوماسي الأكبر كما يقولون، وكان خطوة نحو تصفير مشاكل العالم المصيرية، لكن الصفر رقم، سرعان ما تتالى الأرقام بعده، تركيا صفرت مشاكلها، وسرعان ما راكمتها. إذا كان الاتفاق حسب ادعاء أوباما سيضمن استقرار المنطقة، فالدبلوماسية ينبغي أن تشمل اخماد حروب حركتها طموحات إيران إلى الهيمنة، إلا إذا كان الاستقرار يعني إسرائيل وحدها، دون البلدان الأخرى.
-
المصدر :
- المدن