نشطت الدبلوماسية في الفترة الأخيرة، وأجمعت الآراء على أن تطوراً ملحوظاً نال الأزمة السورية، وجرى الاعتقاد أن حلاً مرتقباً في الأفق سيوضع أخيراً على سكة السياسة، بعد تجاوز الحرب أربع سنوات، كانت جدواها الوحيدة مئات آلاف الشهداء، وملايين النازحين والمهجرين، وخراب يقارن بحرب عالمية.

بقدر ما شطت التوقعات، ولم تكن سوى تكهنات، بقدر ما أصبح الحل بعيداً، بعدما انقشع غبار التحركات الدبلوماسية في المنطقة والساحة الدولية عن أكثر من استحالة للحل السياسي، وانكشف ان الحل العسكري ما زال سيد الحلول جميعاً، على الرغم من الاجماع على استبعاده. فلا انزياحات عما طرح من قبل ولا من بعد على مواقف الروس والإيرانيين، مهما قيل عن التراجع الروسي والمرونة الإيرانية. ما رشح عن الحوار بين روسيا والسعودية، أن المواقف لم تتغير، وعقدة الرئيس على حالها، لا حل لها، فلم يعرف ما إذا كان ينبغي أن يبقى في منصبه خلال الفترة الانتقالية أو يرحل، أو أنه سيخوض انتخابات رئاسية بعد انتهاء رئاسته الحالية. وكل ما عداها مختلف عليه أيضاً، أو غير محدد، على الرغم من تنازلات المعارضة، كتقاسمها السلطة مع مؤيدي النظام الموالين له، ومستقبل مؤسسات الدولة وكيفية إعادة تأهيلها.

روسيا تسعى إلى عقد جنيف 3، وبدأت حسب بوغدانوف الخطوات العملية لإعداده. إيران رغم طرحها مبادرتها ببنودها الأربعة، لم تكن إلا أنها تطرح ما لا يقبل، وما تدخلها المستمر واصرارها الحالي على التمسك بالأسد إلا لاستخدامه كورقة مساومة في المفاوضات القادمة. كلاهما روسيا وإيران لن يتخليا عنه إلا بمقابل مجز. الأمريكان عند موقفهم المعلن من الحل السياسي، لم يتراجعوا عنه: عملية انتقال من دون الأسد. اما موقفهم الفعلي، فلا ضير من بقائه. تصريحات أوباما تبقى للاستهلاك الإعلامي سواء حول فقد النظام السوري لشرعيته، أو اتهامه بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وعلى رأسها اللازمة المعهودة: لا دور للأسد في مستقبل سورية. كذلك ما طرحه ميستورا ووافق عليه مجلس الأمن حول مجموعات العمل، كيف يتحقق، بينما أصاب الفشل الأقل منه والأبسط.

على الأرض اشتداد الصراع على جبهات القتال بين كر وفر، المشهد ذاته للمتقاتلين مع ازديادهم وتشرذمهم، إضافة إلى بعض المتغيرات تمليها حسابات الأطراف الإقليمية، بأخذ تقسيم سورية بالحسبان، التوقعات ترسم حدوداً للدويلات المقبلة. اجمالي الموقف: لا نصر كامل، ولا هزيمة كاملة، وعلى المدنيين دفع الثمن الباهظ لحرب لم تتحدد مراميها النهائية، ما زالت مفتوحة على مجرد احتمالات. وفي مثال مجزرة دوما التي تعدى ضحاياها مائة قتيل و300 جريح، حرب جعلها أطرافها الخارجيين بلا أفق بتمسكهم بمواقفهم الانتهازية على حساب الشعب السوري.

الوضع الأكثر استمراراً، تصاعد حراك الدبلوماسية المنافقة، وترسخ الأرض السورية كساحة صراع بين الدول، الفائدة الوحيدة تجنيها أمريكا وإسرائيل بتحويل سورية إلى بؤرة للجهاديين تستنزف طاقات المنطقة باستنزاف أطرافها. الخلاصة، تفتيت سورية.

هذه الأيام تحل الذكرى الثانية لمجزرة الكيماوي في الغوطة، ذهب ضحيتها ما يزيد عن 1400 من المدنيين أغلبهم من الأطفال والنساء. عشرات المجازر سبقت الكيماوي وأعقبته، وما زالت مستمرة، كانت كلها رسائل سياسية من النظام إلى الأطراف الدولية. النظام يمارس الدبلوماسية بالصواريخ والبراميل المتفجرة والكيماوي، لم يوفر سلاحاً؛ ودائماً جرائمه مسوغة، مؤخراً برر قصفه لسوق دوما باتهام الفقراء وبائعي الخضراوات والخبز بالإرهاب…

لم تشهد السياسة انحطاطاً، قدر ما تبدى في معالجة الدبلوماسية للأزمة السورية، المؤجلة على الدوام، استهلكت الحرب السورية جميع صنوف القتل والتدير والتهجير دون أن تحرك ضمير العالم لحل جدي. المنظمات الانسانية خاطبت الدول الكبرى وطالبتها بأن تنظر بعين الرحمة إلى شعب بات يجوب البحار في قوارب الموت، وأن تجد حلاً انسانياً عادلاً لقضيتهم، بدل التبرم من لجؤهم، وسن القوانين لردعهم عن الفرار من الموت. كان هذا نوعاً من الاستجداء، لكن الدول لا قلب لها. الأجدى اعتماد العقلانية، الغرب عقل العالم، لكن هذه الدعوة لا تخلو من السخرية، عقل الغرب لا ينشغل بهموم البشر ومآسيهم، مهامه الكبرى تحددها مصالحه وعدم التنازل عنها، ولو بالقوة السافرة. عوضت الكثير من الدول هذه القدرة بالنفوذ، عندما يقصر النفوذ، فالبطش لا محالة.

تبعاً لانحطاط السياسة، تنحط الدبلوماسية، ولا غرابة طالما الجانب الإنساني مستبعداً، فبدلاً من ابتداع الحلول، أصبحت مهمتها تعقيد الأزمات، حتى استفحل تعقيد الأزمة السورية. لو أن هناك إرادة دولية جامعة، فالحل أقرب مما نعتقد، لكن سورية ابتليت بارادات دولية متعارضة، معدومة الضمير وشرهة، احتل الروس والايرانيون الحيز الأكبر فيها، وإذا كانت الحلول لم تُجدِ، فلأن ما طرح غير واقعي، وبشكل محدد اجرامي، لذلك ليس التعقيد إلا ضلوعاً في القتل.